مدخل إلى رسالة يهوذا
لا نعرف من خلال ما وصلنا من موروث هويّة يهوذا كاتب هذه الرّسالة، وكلُّ ما نعلمه عنه أنّ لديه شقيقًا يدعى يعقوب. ومن الواضح أنّ يهوذا كان معروفا لدى القرّاء وهو ما دفعه إلى عدم التعريف بنفسه، وربّما كان أيضا أحد أقرباء سيّدنا المسيح (سلامه علينا) وقد جاء ذكره في الإنجيل (انظر متّى 13: 55، مرقس 6: 3).
وُجِّهَتْ رسالة يهوذا على الأرجح إلى عامّة المؤمنين، ورغم ذلك فإنّ الإشكاليات التي تناولتها هي دون شكّ تلك المشاكل والصعوبات التي واجهتها جماعةٌ معيّنة. ويبدو أنّ الرسالة هي بمثابة تحذير كَتَبه يهوذا على عَجَل، يخصّ الذين تسلّلوا إلى جماعة المؤمنين مدّعين أنّهم أتباع السيد المسيح. وقد سيطر الجشعُ على هؤلاء المدّعين وتحكّمت فيهم غرائزُهم، فأحدثوا مناخات تَسُودها السخرية، وقلّةُ الاحترام، والانشقاق بين المؤمنين.
ويعتقد العديد من المفسّرين أنّ رسالة بطرس الصخر الثانية وظَّفتْ بعض الأفكار من رسالة يهوذا واقتبستْ منها بعض المعلومات (انظر المدخل إلى رسالة صخر الثانية). وعلى هذا الأساس، فإنّه من المرجّح أنّ رسالة يهوذا قد كُتبت قبل سنة 68 للميلاد لأنّ رسالة صخر الثانية تعود كتابتُها إلى الفترة التي تتراوح بين سنة 64 و 68 للميلاد.
بسم الله تبارك وتعالى
رسالة يهوذا إلى أحباب الله
1
تحيّة
هذِهِ الرِّسالةُ مِن يَهوذا خادِمِ سَيِّدِنا عيسى المَسيحِ (سلامُهُ علينا)، وشَقيقِ يَعقوبَ. وهي مُوَجَّهةٌ إلى الّذينَ استَجابوا لدَعوةِ اللهِ، وقد أحَبَّهُم اللهُ الأبُ الرَّحيمُ، وهو الّذي حَفَظَهُم آمِنينَ لسَيّدِنا عِيسى المَسيح. يا إخوَتي، عَليكُم رَحمةُ اللهِ والسَّلامُ والمَحَبّةُ ويَزيدُ.
حذار من الدجّالين
يا أحِبّائي، كانَت نِيَّتي شَديدةً في أن أكتُبَ إليكُم عن النَّجاةِ الّتي نَتَمَتّعُ بِها سَويّةً، ولكِنّي رأيتُ أن الأمرَ المُلِحَّ هو تَشجيعُكُم على أن تُجاهِدوا في سَبيلِ الإيمانِ الّذي أوْدَعَهُ اللهُ لِعِبادِهِ الصّالِحينَ بشَكلٍ نِهائيٍّ. فقدِ اندَسَّ بَينَكُم أشرارٌ يُحَوِّلونَ فَضلَ اللهِ إلى عِلَّةٍ كَي يَفسُقوا، ويَتَنَكَّرونَ لِسَيّدِنا ومَولانا الوَحيدِ عيسى المَسيح. ولقد كَشَفَ كِتابُ اللهِ بِئسَ مَصيرِهِم مُنذُ زَمَنٍ بَعيدٍ.
ورَغمَ أنّكُم تَعلَمونَ ما سأقولُهُ لكُم، فإنّي أُذَكِّرُكُم أنّ اللهَ أنقَذَ بَني يَعقوبَ وحَرَّرَهُم مِن مِصرَ، ثُمّ أهلَكَ كُلَّ مَن كَفَرَ مِنهُم. وأُذَكِّرُكُم أيضًا أنّ المَلائِكةَ الّذينَ كانَ لهُم سُلطانٌ، ثُمّ تَجاوَزوا حُدودَهُم وتَرَكوا مَسكَنَهُم، قَيَّدَهُم اللهُ بِسَلاسِلَ أبَديّةٍ في أعماقِ الظَّلامِ حَتّى يَحينَ يَومُ الحِسابِ العَظيمِ. وتَذَكّروا أيضًا مَدينةَ سَدومَ وعَمورةَ والمُدُنَ المُجاوِرةَ لهُما، فقد كانَ أهلُها مُنغَمِسينَ في الفِسقِ والشُّذوذِ الجِنسيِّ، وكُلُّ ما أصابَ أهلَها والمَلائِكةَ المُتَمَرِّدينَ مِن عَذابٍ شَديدٍ هو إنذارٌ للأشرارِ، لأنّ مآلَهُم نارٌ أبَديّةٌ.
وقد اتَّبَعَ هؤُلاءِ الدَّجّالونَ الّذينَ اِندَسّوا بَينَكُم الطَّريقَ نَفسَهُ، فعلى أساسِ أحلامِهِم الكاذِبةِ يَرتَكِبونَ الفَواحِشَ فيُنَجِّسونَ أجسامَهُم، ويَرفُضونَ سُلطانَ اللهِ، ويَتَجَرَّؤونَ في افتِرائِهِم على الكائِناتِ الغَيبيّةِ المَجيدةِ، بَينَما لم يَجرؤْ رَئيسُ المَلائِكةِ مِيخائيلَ على إدانةِ إبليسَ عِندَما كانَ يُجادِلُهُ بِشأنِ جُثمانِ النَّبيِّ موسى (عليه السّلام)، بل قالَ لهُ: “فليُجازِكَ اللهُ”.* يشير يهوذا هنا إلى رواية كانت متداوَلةً في عصره، وربّما وردت في كتاب يهودي قديم من مجموعة الكتب المنحولة يدعى “صعود موسى” ويعود تاريخُه إلى القرن الأول للميلاد تقريبا. وتُخبر القصّةُ كيف رُفع جسدُ النبي موسى إلى السماء، ولم يُذكَر هذا في التوراة ولا في أيِّ كتاب من كتب الأنبياء. انظر توبيخا مشابِها وُجّه إلى الشيطان في كتاب النبي زكريّا بن بَرَكيّا، 3: 2. 10 وهؤلاءِ يَستَهينونَ بما يَجهَلونَ، وهُم كالحَيواناتِ الّتي تَفتَقِدُ إلى المَنطقِ، يَسعَونَ إلى ما تَدفَعَهُم إليهِ غَرائزُهُم، فيَنقادونَ بذلِكَ إلى الهَلاكِ. 11 فالوَيلُ لهُم لأنّهُم يَسيرونَ على خُطى قابيلَ، ويَندَفِعونَ طَمَعًا في المالِ إلى ضَـلالِ بَلْعام الدَّجّالِ، ويَعصُونَ أحكامَ اللهِ مِثلَ قارونَ فيَكونونَ مِن الهالِكينَ. جاء في التوراة كيف استعمل الملك بالاق وهو ملك بلاد مؤاب، بلعام كي يلعن بني يعقوب (انظر التوراة، سفر العدد 22: 4 – 35) وقد اعتبر اليهودُ في تلك الفترة أنّ قابيل وبلعام مثالان للقادة الفاسدين. وجاء ذكر قارون في التوراة باعتباره مُتمرِّدا على النبي موسى (انظر سفر العدد، الفصل 16). 12 إنّ مَثلَهُم كمَثلِ التِّلالِ الرَّمليّةِ تَحتَ مياهِ البَحرِ تُهَدِّدُ السُّفُن، كذلِكَ يَفعَلونَ بكُم فيَندَسّونَ بَينَكُم حينَ تُقيمونَ العَشاءَ التِّذكاريَّ الّذي يَجمَعُ المؤمنينَ الأحِبّاءَ، إنّهُم دَجّالونَ رُعاةٌ لا يُبالونَ إلاّ بأنفُسِهِم. وهُم كالسَّحـابِ الخالي مِن المَطرِ تَدفَعُهُ الرّياحُ، أو كالأشجـارِ الّتي تُقتَلعُ مِن جُذورِها في الخَريفِ لأنّها لا تُثمِرُ، فتَموتُ بذلِكَ مَرّتينِ. 13 ويَتَباهَوْنَ بِأعمالِهِمِ المُخجِلةِ أمامَ النّاسِ، وهُم في ذلِكَ كأمواجٍ البَحرِ الهائِجةِ تَقذِفُ ما فيهِ من أوساخٍ. ويَكونُ مَصيرُهُم الضّياعَ في أعماقِ الظُّلُماتِ كالنُّجومِ التّائهة إلى أبَدِ الآبِدينَ.
14 وتَنَبَّأ عنهُم إدريسُ (عليه السّلام)، وهو مِن الجيلِ السّابعِ بَعدَ آدَمَ (عليه السّلام)، إذ قالَ: “ها رَبُّنا سيَتَجَلّى مَعَ أُلوفٍ مُؤلّفةٍ مِن أوليائِهِ الصّالِحينَ، 15 يُحاسِبُ النّاسَ جَميعًا، ويُدينُ جَميعَ الآثِمينَ، ويَحكُمُ على كُلِّ الآثامِ الّتي ارتَكَبوها، وعلى كُلِّ الإهانات الّتي تَلَفَّظَ بها هؤلاءِ الأشرارُ الآثِمونَ في حَقِّهِ تَعالى”. هذا الاقتباس من كتاب يهوديٍّ قديم يُدعى كتاب إدريس الأوّل (أو أخنوخ الأوّل). وقد اعتمد يهوذا على مصادر دينية متداوَلة بين جمهوره مثل كتاب إدريس هذا. 16 إنّ أولئكَ الدَّجّالينَ يَتَذَمَّرونَ ويَشتَكونَ دائِمًا، ويَتَّبِعونَ أهواءَهُم، ويَتَكَلّمونَ بِكِبرياءٍ، ويَمدَحونَ النّاسَ مَتى وَجَدوا فائدةً في مَدحِهِم.
واجبات المؤمنين
17 أمّا أنتُم يا أحِبّائي، فتَذَكّروا ما تَكَلَّمَ بِهِ حَواريّو سَيِّدِنا عيسى المَسيحِ (سلامُهُ علينا) 18 عِندَما أخبَروكُم أنّهُ سيَظهَرُ في الأيّامِ الأخيرةِ مُستَهزِئونَ يَتَّبِعونَ أهواءَهُم الشِّرّيرةَ، 19 ويُسَبِّبونَ الفِتنةَ ويَخضَعونَ لغَرائزِهمُ الحَيوانيّةِ، إنّهُم يَفتَقِدونَ رُوحَ اللهِ.
20 يا أحِبّائي، اجعَلوا الإيمانَ الطّاهِرَ أساسَ أنفُسِكُم، واقتَدُوا في صَلاتِكم برُوحِ اللهِ. 21 واستَمِرّوا في مَحَبّتِهِ تَعالى، وأنتُم تَنتَظِرونَ الحُصولَ على حَياةِ الخُلودِ رَحمةً مِن مَولانا عيسى المَسيحِ (سلامُهُ علينا). 22 أشفِقوا على المُتَرَدِّدينَ في إيمانِهِم 23 أمّا مَن يوشِكونَ على السُّقوطِ في النّارِ فانتَشِلوهم لَعَلَّكُم تُفلِحونَ في إنقاذِهِم. وأشفِقوا على مُرتَكبي الخَطايا واحذَروا أن تَقَعُوا في ما وَقَعوا فيهِ، واجتَنِبوا أعمالَهُم الفاسِقةَ الّتي تُشبِهُ الثّيابَ النَّجِسةَ.
ختام
24 سُبحانَ اللهِ القادِرِ على حَفظِكُم مِن الضَّلالِ دونَ سِواهُ، وعلى فَتحِ بابِ مَحضَرِهِ المَجيدِ، فتَدُخُلوهُ فَرِحينَ لا تَشوبُكُم شائبةٌ. 25 سُبحانَ اللهِ الواحِدِ الأحَدِ، الّذي يُنَجّينا بسَيِّدِنا عيسى المَسيحِ، فلْيَكُنْ لهُ الجَلالُ والعِزّةُ والقُدرةُ والسُّلطانُ، قَبلَ كُلِّ زَمانٍ، والآنَ، وإلى أبَدِ الآبِدينَ، آمينَ.

*1:9 يشير يهوذا هنا إلى رواية كانت متداوَلةً في عصره، وربّما وردت في كتاب يهودي قديم من مجموعة الكتب المنحولة يدعى “صعود موسى” ويعود تاريخُه إلى القرن الأول للميلاد تقريبا. وتُخبر القصّةُ كيف رُفع جسدُ النبي موسى إلى السماء، ولم يُذكَر هذا في التوراة ولا في أيِّ كتاب من كتب الأنبياء. انظر توبيخا مشابِها وُجّه إلى الشيطان في كتاب النبي زكريّا بن بَرَكيّا، 3: 2.

1:11 جاء في التوراة كيف استعمل الملك بالاق وهو ملك بلاد مؤاب، بلعام كي يلعن بني يعقوب (انظر التوراة، سفر العدد 22: 4 – 35) وقد اعتبر اليهودُ في تلك الفترة أنّ قابيل وبلعام مثالان للقادة الفاسدين. وجاء ذكر قارون في التوراة باعتباره مُتمرِّدا على النبي موسى (انظر سفر العدد، الفصل 16).

1:15 هذا الاقتباس من كتاب يهوديٍّ قديم يُدعى كتاب إدريس الأوّل (أو أخنوخ الأوّل). وقد اعتمد يهوذا على مصادر دينية متداوَلة بين جمهوره مثل كتاب إدريس هذا.