مدخل إلى رسالة فيليبّي
كانت مدينة فيليبّي تقع في مقدونيا شمال اليونان، وسُمِّيت بهذا الاسم نسبة إلى فيليب الثّاني ملك مقدونيا والد الإسكندر الأكبر. وغزاها الرّومان بعد عصر الإسكندر الأكبر بسنوات عديدة واستوطنوها بعد سنة 30 قبل الميلاد، وظلّت الثّقافة اليونانيّة سائدة رغم حكم الرّومان. وبرزت هذه المدينة عندما أنشأَ الرّومان الطريقَ الإغناطي الذي يصل بين شرق الإمبراطوريّة والموانئ البحريّة على السّاحل الغربيِ لليونان. وكانت غنيّة بمناجم الذّهب والفضّة القريبة منها.
ومثّلت جماعة المؤمنين بالسيّد المسيح في فيليبّي أوّل جماعة أسّسها الحواري بولس في أوروبا. ووردت إشارة إلى الأحداث التي ساعدت على تأسيس الجماعة حوالي سنة 50 بعد الميلاد في سيرة الحواريّين 16: 9‏-40. ووصل الحواري بولس صحبة رفاق عمله سلواني وتيموتاوي ولوقا إلى مدينة فيليبّي في رحلته الثاّنية للدّعوة، مرورًا بالمنطقة التي تُعرف بتركيا اليوم. وفي ميناء تَرْواس رأى بولس رؤيا مفادها أنّ السيّد المسيح (سلامه علينا) يأْمرُه بنشر الرّسالة في مقدونيا (انظر سيرة الحواريّين 16: 9).
وعندما شرع بولس ورفاقه في نشر رسالة السيّد المسيح في فيليبّي، آمن عدد كبير من الناس به (سلامه علينا)، ولكنّ بعضهم وقفوا ضدّه وطالبوا بسجنه، وهذا ما حصل فعلاً. ولكن في النّهاية أُطلق سراحُه واضطُرّ إلى مغادرة المدينة. وزار بولس فيليبّي مرّة أخرى في رحلته الدّعوية الثّالثة، وفيها قوّى إيمان المؤمنين، وتعلّق به مؤمنو فيليبّي تعلّقًا كبيرًا، لذلك أرسلوا إليه رجلا يدعى زهرائي ليعتني به ويأتيهم بأخباره عندما كان في السّجن (انظر رسالة فيليبّي 2: 25).
يبدو أنّ بولس قد كتب هذه الرّسالة عندما كان معتقلاً، وكانت تهمته الدّعوة إلى رسالة السّيد المسيح (فيليبّي 1: 7)، لكنّ بولس كان يجهل إن كان سيحكم عليه بالإعدام (فيليبّي 1: 20؛ 2: 17). لذلك يعتقد بعض المفسّرين أنّ الرّسالة كُتبت في السّجن في أفاسوس في الفترة التي تمتدّ من السنة 54 إلى السنة 57 للميلاد. واعتقد غيرهم من المفسرّين أنّ حادثة السّجن وقعت في مدينة قيصريّة في الفترة الممتدّة من السنة 58‏ إلى السنة 60 للميلاد. وعلى كل حال، فإنّه من المرجّح أنّ روما هي المكان الذي كُتبت فيه هذه الرّسالة حوالي السنة 60‏ إلى السنة 63 للميلاد، حيث كان بولس يقيم تحت الإقامة الجبريّة (انظر سيرة الحواريّين 28: 16؛ 30‏-31).
وأراد بولس في بداية هذه الرّسالة أن يقدّم شكره إلى المؤمنين في مدينة فيليبّي (فيليبّي 1‏:5؛ 4: 10‏-19). وأخبر فيها أيضًا عن أحواله (فيليبّي 1: 12‏-26؛ 4: 10‏-19)، وأمر المؤمنين أن يتشبّثوا بإيمانهم بالسيّد المسيح (سلامه علينا)، سعداء مهما كانت الظّروف (فيليبّي 1: 27‏-30؛ 4‏:4). وحثّهم أيضًا على التّماسك والوحدة والتواضع في ما بينهم (فيليبّي 2: 1‏-11؛ 4: 2‏-5).
كما حذّرهم من الذين يَدّعون تعليم صراط السيّد المسيح، في حين أنّ ما يُعَلِّمونه باطل (فيليبّي 3: 1‏-21). ومدح بولس أيضًا تيموتاوي وزهرائي (فيليبّي 2: 19‏-30)، وحثّ المؤمنين أن يتّخذوه قدوة لهم في الإيمان. وكان بولس سعيدًا رغم توقّعه الحكم بالإعدام لمّا كان في السّجن، لأنّ مولاه السيّد المسيح كان إلى جانبه (فيليبّي 2: 17‏-18).
بسم الله تبارك وتعالى
رسالة الحَواريّ بولُس إلى أحباب الله في فـيليبّي
الفصل الأوّل
تحيّة
هذه الرِّسالةُ مِن بولسَ وتيموتاوي خادِمَيْ سَيِّدِنا عيسى المَسيحِ، وهي مُوَجَّهةٌ إلى جَميعِ عِبادِ اللهِ الصّالِحينَ في مَدينةِ فيليبّي، أي أتباع سَيِّدِنا عيسى المَسيحِ، وإلى المَشايخِ المُشرِفينَ والمُساعِدينَ.* المشرفون أو المشايخ هم كبار قادة كلّ جماعة من أتباع السيد المسيح (سلامه علينا)، أمّا المساعدون أو المدبِّرون فيسهرون على تلبية الاحتياجات للمؤمنين، كتوزيع الطعام والمال على الفقراء. السَّلامُ عليكُم والرَّحمةُ مِنَ اللهِ الأبِ الصَّمَدِ ومِن سَيِّدِنا عيسى المَسيحِ.
الدّعاء
أمّا بَعدُ، إخوتي في الإيمانِ، فكُلّما ذَكَرتُكم أشكرُ اللهَ ويَغمُرُني الفَرَحُ عِندَما أدعو لكُم جَميعًا، فلقد كُنتُم لي شُرَكاءَ بِأموالِكُم وأنفُسِكُم في نَشرِ البُشرى بِسَيِّدِنا عيسى مِن أوّلِ يومٍ فيهِ آمَنتُم بِها إلى يَومِنا هذا. إنّ اللهَ بادَرَ وأنعَمَ عليكُم حَتّى تَقوموا بِهذا العَمَلِ الصّالِحِ، وإنّي على يَقينٍ أنّهُ سيَستَمِرُّ في ذلِكَ إلى اليومِ الّذي يَتَجَلّى فيهِ سَيِّدُنا عيسـى المَسيحُ.
ويَحِقّ لي أن أتَمَتَّعَ بهذا الشُّعورِ، لأنّ مَكانَتَكُم مَحفوظةٌ في قَلبي. إنّي الآنَ مُقَيَّدٌ في السِّجنِ وسأُدافِع عن نَفسي وأُبَيِّنُ أمامَ المَحكَمةِ أنّ رِسالةَ سَيِّدِنا عيسى هي الحقُّ. وإنّكُم شُرَكائي تَستَمتِعونَ مَعي بِفَضلِ اللهِ، لأنّكُم تُساعِدونَني في مِحنَتي وفي الدَّعوةِ إلى البُشرى بِهِ (سلامُهُ علينا). اللهُ يَشهَدُ أنّ شَوقي كَبيرٌ إليكُم جَميعًا، وهذا الشَّوقُ نابِعٌ مِن حَنانِ سَيِّدِنا عيسى المَسيحِ عليكُم.
وإنّي أدعو اللهَ أن تَقوى مَحبّتُكُم بَعضِكُم لبَعضٍ، ومَعَها يَتَعَمَّقُ عِلمُكُم بِاللهِ وفَهمُكُم لهُ، 10 وهكذا يَتَوَضَّحُ لكُم طَريقُ الرَّشادِ فتَكونونَ طاهِرينَ خالينَ مِن الشَّوائبِ إلى اليومِ الّذي يَتَجَلّى فيهِ سَيِّدُنا المَسيحُ، 11 وأرجو أن تَمتَلِئَ حَياتُكم بِالخَيرِ النّابِعِ مِن مَرضاةِ اللهِ بِفَضلِهِ (سلامُهُ علينا)، لأنّ فِعلَ الخَيرِ يَكشِفُ لِلنّاسِ طَريقَ اللهِ فيُسَبِّحونَهُ ويَحمَدونَهُ.
انتشار الرّسالة
12 إخوتي في اللهِ، أُريدُ لكُم أن تَعلَموا أنّ الأحوالَ المَريرةَ الّتي مَرَرتُ بها، ساعَدَت في الحَقيقةِ على انتِشارِ البُشرى بِهِ (سلامُهُ علينا)، 13 فالحَرَسُ المَلَكيُّ كُلُّهُ وعامّةُ النّاسِ هُنا يَعرِفونَ أنّي سَجينٌ في سَبيلِ السَّيّدِ المَسيحِ. 14 ولقد رأى الإخوةُ المؤمِنونَ بِهِ (سلامُهُ علينا) كَيفَ كانَ اللهُ يَدعَمُني رَغمَ وجودي في السِّجنِ، فاشتَدَّتْ عَزيمَتُهم لِنَشرِ الرِّسالةِ بِكُلِّ جُرأةٍ دونَ خَوفٍ.
15 إنّ بَعضَ المؤمنينَ كانوا يَدعُونَ إلى الإيمانِ بِالسَّيّدِ المَسيحِ بِدافِعِ المُنافَسةِ والحَسَدِ، ولكِنّ بَعضَهُم الآخَر كانوا يَدعونَ إِليهِ بِسَعةِ صَدرٍ، 16 بِدافِعِ مَحبّتِهم لي، وهُم يَعلَمونَ أنّ اللهَ أقامَني لأدافِعَ عن حَقيقةِ البُشرى بسَيِّدِنا أمامَ السُّلطاتِ، 17 أمّا أولئِكَ الحاسِدونَ، فيُنادونَ بِالسَّيّدِ المَسيحِ بِدافِعِ المُنافَسةِ وإعلاءِ شأنِهِم، لا بدافِعِ إخلاصِهِم، وإنّما سَعيهُم هو مُضاعفةُ مُعاناتي في السِّجنِ. 18 إلاّ أنّي لا أُبالي، طالَما تَتِمُّ الدَّعوةُ إلى السَّيّدِ المَسيحِ مَهما تَكُن الطُّرُق، سَواءٌ كانَت بِدافِعِ التَّظاهُرِ والرِّياءِ أم بِدافِعِ الإخلاصٍ والوَفاءِ. إنّي مَسرورٌ بِهذا، وسيَستَمِرّ فَرَحي وسُروري، 19 لأنّي على يَقينٍ أنّهُ سيَتِمُّ إطلاقُ سَراحي بِفَضلِ دُعائِكم لي وبِمَعونةِ رُوحِ سَيِّدِنا عيسى المَسيحِ.
20 إنّ ما أرجوه وأنتَظِرُه مِن اللهِ هو ألاّ يَخيبَ أملي أبَدًا، بل سأظَلُّ جَريئًا دائمًا في حَديثي عن السَّيّدِ المَسيحِ وأسعى بِكُلِّ كِياني لِرَفعِ شأنِهِ (سلامُهُ علينا)، سَواءٌ عِشتُ أم مُتُّ. 21 إنّ حَياتي وَقْفٌ لِمَولاي المَسيحِ، فإنْ مُتُّ فيا لفَرَحي، لأنّي سأكونُ في حَضرتِهِ، 22 وإنْ بَقيتُ حيًّا بَينَكُم فسيَكونَ بإمكاني أن أقومَ بِأعمالٍ كَبيرةٍ مِن أجلِ مَولانا. تُرى، أيُّ الأمرينِ أحسَن خيارًا وأحسَن تَخْييرًا؟! 23 وإنّي في حَيرةٍ بَينَ أمريْنِ: فأنا في شَوقٍ لأن أموتَ لأنّي سأكونَ إلى جانِبِ السَّيّدِ المَسيحِ، وهذا أفضَلُ خَيارٍ بِالنِّسبةِ إليّ. 24 لكنّ بَقائي على قَيدِ الحَياةِ هو أشَدُّ ضَرورةً لكُم، لأنّي على يَقينٍ أنّكُم في حاجةٍ إليّ، 25 لِذلِكَ سأظَلُّ إلى جانِبِكُم جَميعًا لِكَي يَزداد رُسوخُكُم في الإيمانِ وسُرورُكُم بِهِ، 26 وعِندَما أزوركُم مَرّةً أُخرى يَزدادُ فَخرُكُم بِسَيِّدِنا عيسى المَسيحِ لأنّي أصبَحتُ حُرًّا.
27 ومَهما حَصَلَ لي، تابِعوا واجِباتِكُم أيُّها المؤمِنونَ، تصف عبارة “تابعوا واجباتكم” في اللغة اليونانية وفاء المواطن المقيم في دولة حرّة بالتزاماته المدنية. وقد كان اليهود يستخدمون مثل هذه العبارة للدلالة على طاعة شعبهم لشريعة الله (انظر سيرة الحواريين 23: 1). كَما يَليقُ ببُشرى سَيِّدِنا المَسيحِ. فإذا حَلَلْتُ بَينَكُم وعايَنتُ أحوالَكُم، أو وَصَلَتْني أخبارُكُم في غَيابي، تأكّدتُ أنّكُم مُتَكاتِفونَ بِقَلبٍ واحِدٍ تُجاهِدونَ في سَبيلِ الإيمانِ بالبُشرى. 28 لا تَخافوا أبَدًا مِن الخُصومِ. إنّ في جُرأتِكُم هذِهِ دَليلاً واضِحًا لهُم على أنّ اللهَ سيُهْلِكُهم وسيُنَجّيكُم بفَضلِهِ تَعالى. 29 إِنّ اللهَ قد أنعَمَ عليكُم بِشَرَفِ الألمِ الشَّديدِ في سَبيلِ الإيمانِ بِسَيِّدِنا عيسى المَسيحِ، ولم يُنعِم عليكُم بالإيمانِ وَحدَهُ، 30 فأنتُم تَخوضونَ الآنَ المَعرَكةَ نَفسَها الّتي رَأيتُموني أخوضُها عِندَما كُنتُ بَينَكُم في مَدينةِ فيليبّي، ويَصِلُكُم أنّي ما زِلتُ على الحالةِ نَفسِها. تعرض الحواري بولس للضرب المبرّح وأودع السجن عند دخوله فيليبّي أول مرة للدعوة (انظر سيرة الحواريين 16: 16‏-40).

*الفصل الأوّل:1 المشرفون أو المشايخ هم كبار قادة كلّ جماعة من أتباع السيد المسيح (سلامه علينا)، أمّا المساعدون أو المدبِّرون فيسهرون على تلبية الاحتياجات للمؤمنين، كتوزيع الطعام والمال على الفقراء.

الفصل الأوّل:27 تصف عبارة “تابعوا واجباتكم” في اللغة اليونانية وفاء المواطن المقيم في دولة حرّة بالتزاماته المدنية. وقد كان اليهود يستخدمون مثل هذه العبارة للدلالة على طاعة شعبهم لشريعة الله (انظر سيرة الحواريين 23: 1).

الفصل الأوّل:30 تعرض الحواري بولس للضرب المبرّح وأودع السجن عند دخوله فيليبّي أول مرة للدعوة (انظر سيرة الحواريين 16: 16‏-40).