الفصل العاشر
كُورنيليوس
وفي مَدينةِ قَيصريّة كانَ رَجُلٌ رُومانيٌّ اسمُهُ كورْنيليوسُ، وهو ضابِطٌ على الكَتيبةِ الإيطاليّة،* كانت مدينة القيصرية مركز قيادة جيش الاحتلال الروماني. وكانَ هو وأهلُ بيتِهِ وَرِعينَ يَخافونَ اللهَ، وهو كَثيرُ التَّصَدُّقِ على ذَوِي الحاجةِ مِن بَني يَعقوبَ وكَثيرُ الصَّلاةِ والعِبادَةِ للهِ. لم يكن كورنيليوس يهوديًا، ولذلك لم يكن مختونًا، وكان الختان أحد الشروط لكي يصبح الرجل يهوديًا. أمّا كورنيليوس فكان تقيًا وآمن بما جاء في التوراة وغيرها من كتب الأنبياء. وكان هناك العديد من الرجال والنساء الذين آمنوا مثله بتعاليم اليهودية، ولكنّهم لم يستطيعوا قبول جميع التقاليد التي كانت تُطلب منهم ليصبحوا يهودًا. وذاتَ يومٍ خِلالَ وَقتِ العَصرِ، تَجَلَّى لهُ مَلاكٌ في رُؤيا إنّ الرؤيا تشبه الحلم، ومصدرها اللّه، وهي تحصل عندما يكون الشخص يقظًا أو نائمًا على حدٍّ سواء. وقالَ لهُ: “كُورنيليوسُ”. فحَدَّقَ إليهِ هذا الأخيرُ خائفًا وأجابَهُ: “ما الأمرُ يا سَيِّدي؟” فقالَ لهُ المَلاكُ: “قد تَقَبَّلَ اللهُ مِنكَ صَلواتِكَ وصَدَقاتِكَ، وهو رَاضٍ عَنكَ. فَقُمْ وأرسِلْ بَعضَ الرِّجالِ إلى مَدينةِ يافا، واستَدعِ سَمعانَ، المُلَقَّبَ ببُطرُسَ الصَّخر، فقد نَزَلَ ضَيفًا عِندَ سَمعانَ الدَّبّاغ في دارِهِ على شاطِئ البَحرِ”. وعِندَما انصَرَفَ المَلاكُ، دَعا كُورنيليوسُ اثنينِ مِن خَدَمِهِ وجُنديًّا مِن مُساعِدِيهِ كانَ على جَانبٍ كَبيرٍ مِنَ التَّقوى، وحَدَّثَهُم بِكُلِّ ما رَأى، ثُمَّ أرسَلَهُم إلى يافا.§ تبعد مدينة يافا عن مدينة قيصرية بحوالي 48 كيلومتر باتّجاه الجنوب.
وفي اليَومِ التّالي وبَينَما كانوا على مَقرُبةٍ مِنَ المَدينةِ، صَعِدَ بُطرسُ إلى السَّطحِ ليُصَلِّي خِلالَ وَقتِ الظُّهرِ،* في ذلك الوقت، كانت صلوات اليهود تقام في الصباح وفي العصر، وكانت هناك صلاة إضافية تقام في الظهر أو في المغرب. 10 فأخَذَ مِنهُ الجُوعُ كُلَّ مَأخذٍ، وبَينَما كانوا يُجَهِّزونَ الطَّعامَ، رُفِعَ عَنهُ الحِجابُ. رفع الحجاب هو انكشاف عالم الغيب للناظر ولا يكون ذلك إلا للرسل والأنبياء والأولياء. 11 فرَأى السَّماءَ وقدِ انشَقَّت، ومُلاءَةً كَبيرةً مَعقودَةً مِن أطرافِها الأربَعةِ مُدَلاّةً إلى الأرضِ، 12 مَملوءَةً بجَميعِ أنواعِ الحَيواناتِ مِن دَوابّ وزَواحِف وطُيور، 13 وسَمِعَ هاتِفًا يَقولُ: “قُم يا بُطرُسُ اِذبَحْ وكُلْ”. 14 فأجابَ بُطرسُ: “لا يا سَيِّدي! إنّ مِن بَينَ تِلكَ الحَيواناتِ ما هو مُحَرَّمٌ أكلُهُ! وأنا لم آكُل في حَياتي حَرامًا بل كانَ طَعامي دائِمًا حَلالاً”. 15 فأعادَ الهاتِفُ عليهِ القَولَ ثانيَةً: “ما طَهَّرَهُ اللهُ، لاَ تُنَجِّسْهُ أنتَ”. 16 وتَكَرَّرَ ذلِكَ ثَلاثَ مَرّاتٍ، ثُمَّ ارتَفَعَتِ المُلاءةُ إلى السَّماءِ، وأفاقَ بُطرسُ.
17 وبَينَما كانَ غارِقًا في حَيرتِهِ يَتَساءَلُ عَن مَعنى ما رَأى، كانَ الرِّجالُ الّذينَ جَاؤوا مِن عِندَ كورْنيليوسَ عِندَ البابِ يَسألونَ عن دارِ سَمعانَ الدّبَّاغ. 18 وعِندَما وَصَلوا أخَذوا يُنادونَ سائِلينَ: “هل حَلَّ بَينَكُم ضَيفٌ اسمُهُ بُطرُسُ؟” 19 وبَينَما كانَ بُطرسُ غارِقًا في أفكارِهِ يُحاوِلُ تَفسيرَ مَعنى ما جَاءَتهُ بِهِ الرُّؤيا، جاءَهُ وَحيٌ مِن رُوحِ اللهِ يُخبِرُهُ: “جاءَ ثَلاثةُ رِجَالٍ في طَلَبِكَ، 20 فقُمْ وقابِلْهُم واِذهبْ مَعَهُم بِلا تَرَدُّدٍ فأنا أرسَلتُهُم إليكَ”. 21 فاستَجابَ بُطرُسُ ونَزَلَ إلى الرِّجالِ وقالَ لهُم: “أنا مَن جِئتُم تَطلُبونَ، فما سَبَبُ مَجيئِكُم؟” 22 فأجَابَهُ الرِّجالُ: “قَدِمنا بِطَلَبٍ مِن كُورنيليوسَ الضّابطِ الرُّومانيّ. وهو الرَّجُلُ الصّالحُ التَّقيُّ، الّذي يَحتَرِمُهُ بَنو يَعقوبَ، وقد جاءَهُ مَلاكٌ طَلَبَ مِنهُ استِدعاءَكَ لسَماعِ ما عِندَكَ مِن كَلامٍ”. لم يستطع بطرس قبول دعوة كورنيليوس للمكوث عنده بسهولة لأنّ اليهود كانوا يعتبرون أنّ دخول بيت إنسانٍ غير يهودي ينجّسهم. وقد عرف بطرس أنّ الذين آمنوا بالسيد المسيح من اليهود كانوا لا يزالون متشدّدين فيما يخصّ التقاليد اليهودية، وأنّهم كانوا سينتقدونه لدخوله بيت أجنبي. 23 فاستَجابَ بُطرسُ الصَّخرُ لِطَلَبِهِم واستَضافَهُم في تِلكَ اللَّيلةِ.
24 وفي اليَومِ التّالي رَحَلَ مَعَهُم، ومَعَهُ بَعضُ المُؤمِنينَ مِن يافا. 25 وعِندَ وصُولِهِم إلى مَدينةِ قَيصرِيّةٍ بَعدَ يومٍ مِن السَّفَرِ، كانَ كُورنيليُوسُ في انتِظارِهِم وقد دَعا بَعضًا مِن أقاربِهِ وأصدقائِهِ المُقَرَّبينَ لكي يَستَمِعوا إلى بُطرُسَ. ولمّا وَصَلَ بُطرسُ ومَن مَعَهُ إلى الدّارِ، خَرَجَ كُورنيليوسُ لاستِقبالِهِ، ورَمى بِنَفسِهِ عِندَ قدَمَيهِ، ساجِدًا أمامَهُ، 26 فأنهَضَهُ بسُرعةٍ قائِلاً: “قُم حالاً! إنّما أنا مُجَرَّدُ إنسانٍ مِثلُكَ!” 27 ودَخَلَ وإيّاهُ وتَبادَلا الحَديثَ، فوَجَدَ بُطرسُ حَشدًا مِنَ النّاسِ،§ لم يمنع التقليد اليهودي دخول بيوت غير اليهود فحسب، بل منع أيضًا تناول الطعام والشراب معهم. يعني هذا أنّ اليهود المتشدّدين كانوا يمنعون اليهود من تناول الطعام الذي جهّزه غير اليهود، ولذلك كان الناس من بقيّة الأمم يشعرون أنّ اليهود غير اجتماعيين. ولكنّ الله أوحى إلى بطرس بضرورة تغيير هذه العادات بين أتباع السيد المسيح. 28 فخَاطَبَهُم قائِلاً: “أنتُم تَعلَمونَ جَميعًا تَقاليدَنا الّتي تَمنَعُ اليَهوديَّ مِنَ التَّعامُلِ مَعَ غَيرِ اليَهوديِّ ومِن زِيارتِهِ، إلاّ أنّ اللهَ تَعالى بَيَّنَ لي أنّ الإنسانَ مِن أيِّ شَعبٍ كانَ لَيسَ نَجِسًا ولا مَرفوضًا، 29 لِذلِكَ جِئتُكُم دونَ اعتِراضٍ عِندَما أرسَلتُم في طَلَبي. والآنَ أسألُكم لِمَ أرسَلتُم في طَلَبي؟” 30 فأجابَهُ كُورنيليوسُ بقَولِهِ: “بَينَما كُنتُ، مُنذُ أربَعةِ أيّامٍ، أُصَلّي عَصرًا في داري، ظَهَرَ أمامي فَجأةً رَجُلٌ عليهِ ثيابٌ بَرّاقَةٌ وأخبَرَني: 31 “أيا كُورنيليُوسُ، قد تَقَبَّلَ اللهُ صَلاتَكَ وصَدَقاتِكَ ورَضِيَ عَنكَ، 32 فأرسِلْ برِجالٍ إلى مَدينةِ يافا لاستِدعاءِ رَجُلٍ اسمُهُ بُطرسُ، إنّهُ يَنزِلُ ضَيفًا في دارِ سَمعانَ الدَّبّاغ على شاطئ البَحرِ”. 33 وهكذا فَعَلتُ، فأرسَلتُ أستَدعِيكَ فَورًا، ولقَد فَعَلتَ حَسَنًا بأنِ استَجَبتَ، وها نَحنُ الآنَ مُجتَمِعونَ في حَضرةِ اللهِ لِنَستمِعَ إلى كُلِّ ما أمَرَكَ اللهُ بِهِ”.
كلمة بـطرس
34 وجَلَسَ بُطرُسُ الصَّخرُ ليُحَدِّثَهُم فقالَ: “لقد تَيَّقَنتُ الآن أنّ النّاسَ جَميعًا سَواسيَةٌ عِندَ اللهِ، 35 وأقرَبُهُم إليهِ أتقاهُم وأصلَحُهُم للنَّاسِ، مَهما كانَ جِنسُهُ. 36 لقد سَمِعتُم بِلا شَكٍّ عنِ البِشارَةِ الّتي بَعَثَها اللهُ إلى بَني يَعقوبَ، الّتي تُعلِنُ بأنّ التَّقَرُّبَ إلى اللهِ تَعالى لا يَكونُ إلاّ مِن خِلالِ عيسى المَسيحِ سَيِّدِ جَميعِ البَشَرِ. 37 وقد سَمِعتُم أيضًا ما حَدَثَ في أطرافِ فِلَسطين، حَيثُ كانَتِ بِدايةُ رِسالةِ عيسى في مِنطَقةِ الجَليلِ بَعدَ التَّطَهُّرِ بالماءِ حَسَبَ دَعوةِ النّبيِّ يَحيى. 38 وعَلِمتُم أنّ اللهَ تَعالى اختارَ، في الوَقتِ عَينِهِ، عيسى النّاصِريَّ فوَهَبَهُ قوّتَهُ ورُوحَهُ القُدّوسَ، وكانَ مَعَهُ أينَما حَلَّ، لقد كانَ (سلامُهُ علينا) يَجوبُ كُلَّ الأماكنِ لِيَعمَلَ الخَيرَ ولِيُبرئَ كُلَّ مَن كانَ تَحتَ سَطوةِ الشَّيطانِ. 39 ولقد شاهَدنا، نَحنُ الحَواريُّونَ، كُلَّ الأعمالِ الّتي قامَ بها سَيِّدُنا عيسى في البِلادِ الّتي يَسكُنُ فيها اليَهودُ، إضافةً إلى القُدسِ، كَما شاهَدنا كَيفَ قَتَلوهُ صَلبًا. 40 ولكنَّ اللهَ بَعَثَهُ حيًّا بَعدَ ثَلاثَةِ أيّامٍ وأظهَرَهُ 41 للَّذينَ اختارَهُم اللهُ مِن قَبلُ ليَكونوا شُهودًا، ولَيسَ لِكُلِّ الشَّعبِ. ونحنُ الشُّهودُ الَّذينَ أكَلنا وشَرِبنا مَعَهُ بَعدَ أن بَعَثَهُ اللهُ حيًّا. 42 ثُمَّ جاءَ الأمرُ الرَّبّانيُّ بأن نَقومَ بتَبليغِ النّاسِ الرِّسالةَ مُعلِنينَ أنّ عيسى (سلامُهُ علينا) هو الّذي عَيَّنَهُ اللهُ تَعالى دَيّانًا للأحياءِ والأمواتِ. 43 ولهُ يَشهَدُ جَميعُ الأنبياءِ أنّ كُلَّ مَن يُؤمِنُ بِهِ تُغفَرُ ذُنوبُهُ بشَفاعَتِهِ”.
حلول روح الله في المؤمنين
44 وبَينَما كانَ بُطرُسُ الصَّخرُ يُتابِعُ حَديثَهُ، حَظِي الحُضورُ المُنصِتونَ للرِّسالةِ بحُلولِ رُوحِ اللهِ، 45 فأخَذَتِ الدَّهشةُ المُؤمِنينَ مِن بَني يَعقوبَ الّذينَ كانوا برِفقةِ بُطرُسَ، لأنّ اللهَ أفاضَ على غَيرِ اليَهودِ هِبَةَ رُوحِهِ القُدُّوسِ،* إلى ذلك الحين، لم تحلّ روح الله إلاّ على اليهود والسامريين ومن انضمّ إلى الديانة اليهودية دون سواهم. لذلك عندما أعطى اللّه روحه تقدّس وتعالى لغير اليهود، أي غير المختونين، فقد أعلن بذلك قبول الأمم كأعضاء من قوم ميثاقه أيضًا. 46 مِمّا جَعَلَهُم يَتَكَلّمونَ بلُغاتٍ مُختلفَةٍ مُسَبِّحينَ اللهَ. 47 فقالَ بُطرُسُ: “هؤلاءِ تَمَتّعوا بِهِبةِ رُوحِ اللهِ مِثلَنا، فمَنِ الّذي يَمنَعُهُم مِنَ التَّطَهُّرِ بالماءِ صِبغةً للهِ، لِلانضِمامِ إلى جَماعةِ سَيِّدِنا عِيسى؟” 48 ثُمَّ أمَرَ بتَطَهُّرِهِم بالماءِ باسمِ عِيسى المَسيحِ. وطَلَبَ كُورنيليوسُ ومَن مَعَهُ مِن بُطرُسَ الإقامةَ بَينَهُم بِضعَةِ أيّامٍ.

*الفصل العاشر:1 كانت مدينة القيصرية مركز قيادة جيش الاحتلال الروماني.

الفصل العاشر:2 لم يكن كورنيليوس يهوديًا، ولذلك لم يكن مختونًا، وكان الختان أحد الشروط لكي يصبح الرجل يهوديًا. أمّا كورنيليوس فكان تقيًا وآمن بما جاء في التوراة وغيرها من كتب الأنبياء. وكان هناك العديد من الرجال والنساء الذين آمنوا مثله بتعاليم اليهودية، ولكنّهم لم يستطيعوا قبول جميع التقاليد التي كانت تُطلب منهم ليصبحوا يهودًا.

الفصل العاشر:3 إنّ الرؤيا تشبه الحلم، ومصدرها اللّه، وهي تحصل عندما يكون الشخص يقظًا أو نائمًا على حدٍّ سواء.

§الفصل العاشر:8 تبعد مدينة يافا عن مدينة قيصرية بحوالي 48 كيلومتر باتّجاه الجنوب.

*الفصل العاشر:9 في ذلك الوقت، كانت صلوات اليهود تقام في الصباح وفي العصر، وكانت هناك صلاة إضافية تقام في الظهر أو في المغرب.

الفصل العاشر:10 رفع الحجاب هو انكشاف عالم الغيب للناظر ولا يكون ذلك إلا للرسل والأنبياء والأولياء.

الفصل العاشر:22 لم يستطع بطرس قبول دعوة كورنيليوس للمكوث عنده بسهولة لأنّ اليهود كانوا يعتبرون أنّ دخول بيت إنسانٍ غير يهودي ينجّسهم. وقد عرف بطرس أنّ الذين آمنوا بالسيد المسيح من اليهود كانوا لا يزالون متشدّدين فيما يخصّ التقاليد اليهودية، وأنّهم كانوا سينتقدونه لدخوله بيت أجنبي.

§الفصل العاشر:27 لم يمنع التقليد اليهودي دخول بيوت غير اليهود فحسب، بل منع أيضًا تناول الطعام والشراب معهم. يعني هذا أنّ اليهود المتشدّدين كانوا يمنعون اليهود من تناول الطعام الذي جهّزه غير اليهود، ولذلك كان الناس من بقيّة الأمم يشعرون أنّ اليهود غير اجتماعيين. ولكنّ الله أوحى إلى بطرس بضرورة تغيير هذه العادات بين أتباع السيد المسيح.

*الفصل العاشر:45 إلى ذلك الحين، لم تحلّ روح الله إلاّ على اليهود والسامريين ومن انضمّ إلى الديانة اليهودية دون سواهم. لذلك عندما أعطى اللّه روحه تقدّس وتعالى لغير اليهود، أي غير المختونين، فقد أعلن بذلك قبول الأمم كأعضاء من قوم ميثاقه أيضًا.