الفصل الثامن عشر
القبض على عيسى (سلامُهُ علينا)
وغادَرَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) بَعدَ ابتِهالِهِ صُحبَةَ حَواريِّيهِ ذلِكَ المَكانَ، ليَجتازوا مَعًا وادي قيدرونَ، ودَخَلوا فيهِ إلى بُستانٍ مِن شَجَرِ الزَّيتونِ. وكانَ يَهوذا الّذي سيَغدِرُ بسَيِّدِنا عيسى يَعرِفُ ذلِكَ البُستانَ لأنّ عيسى (سلامُهُ علينا) اعتادَ أن يَجتَمِعَ فيهِ بأتباعِهِ. فاصطَحَبَ يَهوذا إلى ذلِكَ المَكانِ جَماعةٌ مِن عَسكَرِ الرُّومان* كان الجنود الرومان يرابطون في قلعة “أنطونيا” داخل القدس وذلك لضبط النظام في المدينة. ومن الممكن أن يكون كبار الأحبار والمتشدّدون قد أقنعوا هؤلاء الجنود بالقبض على سيدنا عيسى (سلامُهُ علينا) مدّعين لهم أنّه رجل متمرّد خطير. ومَجموعةٌ مِن حَرَسِ بَيتِ اللهِ الّذينَ أرسَلَهُم رؤساءُ الأحبارِ والمُتَشَدِّدونَ، وكانَ بِحَوزَةِ المَوكِبِ مَصابيحُ ومَشاعلُ وسِلاحٌ.
وكانَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) يَعلَمُ بما سيَحُلُّ بِهِ، فخَرَجَ إليهِم قائلاً: “مَن هذا الّذي جِئتُم في طَلَبِهِ؟!” فأجابوهُ قائلينَ: “إنّهُ عيسى النّاصِريّ”. فقالَ لهُم: “أجل، أنا عيسى النّاصريّ”. وكانَ يَهوذا الخائنُ واقِفًا مَعَ الجُنودِ والحَرَسِ. وعِندَما أجابَهُم (سلامُهُ علينا) بأنّهُ هو، تَراجَعوا وسَقَطوا أرضًا! فسألَهُم ثانيةً: “مَن جِئتُم وَراءَهُ؟!” فأصَرّوا على طَلَبِهِم قائلينَ: “عيسى النّاصريّ”. فقالَ لهُم: “أخبَرتُكُم أنّني أنا عيسى النّاصريّ، وأنا بَينَ أيديكُم فخَلُّوا سَبيلَ أصحابي”. وبهذا تَحَقَّقَ ما ذَكَرَهُ عِندَ ابتهالِهِ: “ما خَسِرتُ يا رَبُّ أحَدًا مِنَ الأتباعِ الَّذينَ وَهَبتَهُم لي”. 10 وأثناءَ ذلِكَ، استَلَّ صَخرٌ سَيفًا كانَ مَعَهُ وقَطَعَ الأذُنَ اليُمنى لأحَدِ عَبيدِ كَبيرِ الأحبارِ، وكانَ اسمُه مالِك. مالك المشار إليه هنا على الأرجحِ اسم عربي من مملكة الأنباط الواقعة في الأردن وجنوب سوريا اليوم. وقد عبّروا عن هذا الاسم في اللغة اليونانية بـ“ملخس”. 11 والتَفَتَ (سلامُهُ علينا) إلى صَخر قائلاً: “أعِدْ سَيفَكَ إلى غِمدِهِ، أفلا أشرَبُ كأسَ الآلامِ الّتي قَدَّرَها لي اللهُ الأبُ الرَّحيمُ!؟”
12 وهكذا قامَ العَسكَرُ الرُّومانُ مَعَ ضابِطِهِم، ومَجموعةُ الحُرّاسِ بالقَبضِ على عيسى (سلامُهُ علينا) فقَيَّدُوهُ 13 وساقوهُ في البدايةِ إلى حَنّا حَمي قَيافا الّذي كانَ كَبيرَ الأحبارِ في تِلكَ الفَترةِ. كان حنا كبير الأحبار من سنة 6 للميلاد إلى أن أقاله الرُّومان سنة 15 للميلاد. وينصّ القانون اليهُودي أن يكون كبير الأحبار حاكمًا مدى عمره. لذا اعتبر اليهودُ قرارَ الرُّومان بإقالة حنّا غيرَ نافذ فظلّ الشعب يحترمه. وكان حنّا ثريًّا يتمتّع بنفوذ كبير، لأنّ منصب كبير الأحبار هو أعلى المناصب الدينية إلى حين مجيء الاحتلال الروماني. ومن المفترض أن يكون حكم الإعدام قد صدر عن مجموع من القضاة، إذ لا يملك القاضي وحده صلاحية إصدار مثل هذا الحكم. لكنّ ذلك لم يمنع حنّا مِن ممارسة سلطته في استجواب سيدنا عيسى (سلامُهُ علينا) الذي حُكم عليه بالإعدام فيما بعد. 14 وقَيافا هو الّذي نَصَحَ زُملاءَهُ مِن قادةِ اليَهودِ قائلاً: خَيرٌ أن يَموتَ رَجُلٌ واحدٌ فِداءً للأُمّةِ مِن أن تَهلِكَ الأُمَّةُ بأكملِها.
بطرس وإنكار علاقته بالمسيح (سلامُهُ علينا)
15 ومَضى في إثرِ سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) بُطرُسُ الصَّخر وحَواريٌّ آخرُ كانَت لهُ صِلةٌ بكَبيرِ الأحبارِ، فدَخَلَ الحَوارِيُّ الثّاني مَعَ سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) إلى باحةِ قَصرِ كَبيرِ الأحبارِ، 16 وظَلَّ بُطرُسُ بِدَورِهِ واقفًا عِندَ البابِ. وتَوَسَّطَ ذاكَ الحَوارِيُّ لَدى فَتاةٍ كانَت تَحرسُ البوّابة ليَدخُلَ بُطرُسُ. 17 فسألَتهُ: “هل أنتَ أيضًا مِن أتباعِ هذا الرَّجُلِ؟” فأنكَرَ بُطرُسُ ذلِكَ بقولِهِ: “كَلاّ، لَستُ مِن أتباعِهِ”. 18 ولمّا كانَ البَردُ شَديدًا، أوقدَ العَبيدُ والحُرّاسُ النّارَ والتَفُّوا حَولَها يَتَدفَّؤُونَ، واقتَرَبَ مِنهُم بُطرُسُ يَتَدَفَأ.
كبير الأحبار يقوم باستجوابه (سلامُهُ علينا)
19 وتَوَجَّهَ كَبيرُ الأحبارِ إلى سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) يَستَجوِبُهُ عَن أتباعِهِ والتَّعاليمِ الّتي يُنادي بها، 20 فأجابَهُ (سلامُهُ علينا): “إنّما بَشَّرتُ بتَعاليمي جَهرًا، على رُؤوسِ الأشهادِ في بُيوتِ العِبادَة والحَرَمِ الشَّريفِ حَيثُ يَجتَمِعُ كُلُّ اليَهودِ. 21 فلِمَ تَسألُنِي أنا؟ اسألْ هؤلاء الّذينَ سَمِعوا ما ذَكَرتُ، إنّهُم يَعلَمونَ كُلَّ ذلِكَ”. 22 فلَطَمَهُ أحَدُ الحُرّاسِ على خَدِّهِ قائلاً: “أهكذا تُخاطِبُ كَبيرَ الأحبارِ؟!” 23 فأجابَهُ (سلامُهُ علينا): “إن كُنتُ قد أخطأتُ في جَوابي فأَثبِتْ ذلِكَ بِشُهودٍ، وإن نَطَقتُ صَوابًا، فلِمَ تَلطِمُني؟!” 24 وأرسَلَ حَنّا عيسى (سلامُهُ علينا) مُقَيَّدًا إلى قَيافا كَبيرِ الأحبارِ.§ حنّا هو كبير الأحبار الذي سبقت الإشارة إليه. وهو الذي استجوب سيدنا عيسى (سلامُهُ علينا) ثم أرسله إلى قيافا كبير الأحبار الذي يعترف به الرومان.
بطرس وإنكاره لعيسى (سلامُهُ علينا) ثلاثَ مرّات
25 وفي ذلِكَ الحِين، كانَ بُطرُسُ يَتَدفَّأ مَعَ الحُرّاسِ، فسألوهُ: “هل أنتَ أيضًا مِن أتباعِهِ؟!” فأجابَهُم بُطرُسُ مُنكِرًا: “كَلاّ، لَستُ مِنهُم”. 26 فالتَفَتَ إليهِ أحَدُهُم وقد كانَ عَبدًا عِندَ كَبيرِ الأحبارِ، وهو مِن أقارِبِ مَن قَطَعَ بُطرُسُ لهُ أذُنَهُ، وقالَ لهُ: “أما شاهَدتُكَ برِفقةِ عيسى في ذلِكَ البُستانِ؟!” 27 فأنكَرَ بُطرُسُ ذلِكَ مَرّةً ثالثةً، وقد تَزامَنَ ذلِكَ الإنكارُ مَعَ صِياحِ الدِّيكِ.
عيسى (سلامُهُ علينا) يَمثُلُ أمام الحاكم الرُّومانيّ
28 واُقتيدَ (سلامُهُ علينا) بَعدَ انتهاءِ مُحاكمتِهِ فَجرًا مِن عِندِ كَبيرِ الأحبارِ قَيافا إلى قَصرِ الحاكِمِ الرُّومانيّ، وامتَنَعَ اليَهودُ عَن دُخولِ القَصر حتّى لا تُصيبَهُم النَّجاسةُ فيُحرَموا مِن تَناوُلِ عَشاءِ عِيدِ الفِصحِ.* كان اليهود يعتقدون أنّ من دخل بيت أجنبي غير يهودي تصيبه النجاسة. 29 لذا خَرَجَ الحاكِمُ بيلاطُس إليهِم ليَسألَهُم قائلاً: “ماهي التُّهمةُ الّتي تُوجِّهونَها إلى هذا الرَّجُلِ؟” فأجابوهُ: 30 “لو لم يَكُن مُجرِمًا لَمَا سَلَّمناكَ إيّاهُ”. 31 إلاّ أنّ بيلاطُس قالَ لهُم: “خُذوهُ وحاكِموهُ حَسَبَ شَريعتِكُم”. فانبَرَوا قائلينَ: “كَيفَ وقد سَلَبَ الرُّومانُ مِنّا صَلاحيَّةَ الحُكمِ بالإعدامِ؟” 32 فتَحَقّقَت بذلِكَ نبُوءةُ سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) حَولَ طَرِيقةِ مَوتِهِ. لم يكن يُسمح لغير الرومان بتنفيذ الحكم بالإعدام، لذا تحقّقت نبوءة سيدنا عيسى (سلامُهُ علينا) في أنّه سيموت صلبًا تبعًا لطريقة الرومان في تنفيذهم حكم الإعدام، أمّا طريقة اليهود في تنفيذ الإعدام، فكانت الرجم.
33 وعادَ بيلاطسُ إلى القَصرِ، واستَدعى عيسى (سلامُهُ علينا) ليَسألَهُ: “هل أنتَ مَلِكُ اليَهود؟!” في حال اعترف المسيح (سلامُهُ علينا) بأنّه ملك، فإنه يحاكم على أنّه متمرّد وبالتالي يحكم عليه بالصلب. 34 فأجابَهُ: “أهذا سُؤالٌ خَطَرَ بِبالِكَ فألقَيتَهُ عليَّ، أم هو مِمّا بَلَغَكَ عنّي مِنَ الآخَرينَ؟!”§ سؤال بيلاطس هنا ملتبس. لذلك سأله السيد المسيح ليعرف الهدف من سؤاله عن طبيعة مُلكه، لأنّ المسيح (سلامُهُ علينا) لم يكن يدّعي المُلك على مقاطعة من مقاطعات الرومان، إنّما كان قصده المُلك الروحي الشامل. 35 إلاّ أنّ بيلاطُسَ أجابَهُ: “وهل أنا يَهوديٌّ حتّى يَهُمَّني كُلُّ ذلِكَ؟ فقد سَلَّمَكَ إليَّ شَعبُكَ ورُؤساءُ الأحبارِ! فما الّذي ارتَكبتَهُ؟!” 36 فأجابَهُ (سلامُهُ علينا): “لَستُ مَلِكًا دُنيويًّا، ولو كانَ كذلِكَ لدَافعَت حاشيَتي نَفسُها عنِّي فلا يَقبِضُ اليَهودُ عليّ. ولكنّ مَملكَتي لَيسَت مِن هذا العالَمِ”. 37 فقالَ لهُ بيلاطُسُ: “أنتَ مَلِكٌ إذَن!” فأجابَهُ (سلامُهُ علينا): “نَطقتَ صَوابًا، أنا مَلِكٌ، وقد وُلدتُ وبُعِثتُ إلى هذا العالَمِ لأشهَدَ للحَقَّ، فكُلُّ مَن يُحِبُّ الحَقَّ يُطِيعُ تَعاليمي”. 38 فسألَهُ بيلاطسُ: “وما هو الحَقُّ؟” ثُمّ خَرَجَ إلى الحُشودِ وقالَ لهُم: “لَستُ أرى لهُ جَريمةً ارتَكَبَها. 39 قد جَرَتِ العادةُ بَينَكُم على أن أُطلِقَ لكم سَجينًا واحدًا مِن سُجنائِكُم في عِيدِ الفِصح، فهل لدَيكُمُ الرَّغبةُ في إطلاقِ مَلِكِ اليَهودِ؟” 40 فَعَلَت أصواتُهُم ورَدّوا قائلينَ: “لا تُطلِق سَراحَهُ، بل أطلِقْ سَراحَ باراباس!” وقد كانَ باراباسُ هذا مُجرِمًا مُتَمَرِّدًا على الرُّومان.

*الفصل الثامن عشر:3 كان الجنود الرومان يرابطون في قلعة “أنطونيا” داخل القدس وذلك لضبط النظام في المدينة. ومن الممكن أن يكون كبار الأحبار والمتشدّدون قد أقنعوا هؤلاء الجنود بالقبض على سيدنا عيسى (سلامُهُ علينا) مدّعين لهم أنّه رجل متمرّد خطير.

الفصل الثامن عشر:10 مالك المشار إليه هنا على الأرجحِ اسم عربي من مملكة الأنباط الواقعة في الأردن وجنوب سوريا اليوم. وقد عبّروا عن هذا الاسم في اللغة اليونانية بـ“ملخس”.

الفصل الثامن عشر:13 كان حنا كبير الأحبار من سنة 6 للميلاد إلى أن أقاله الرُّومان سنة 15 للميلاد. وينصّ القانون اليهُودي أن يكون كبير الأحبار حاكمًا مدى عمره. لذا اعتبر اليهودُ قرارَ الرُّومان بإقالة حنّا غيرَ نافذ فظلّ الشعب يحترمه. وكان حنّا ثريًّا يتمتّع بنفوذ كبير، لأنّ منصب كبير الأحبار هو أعلى المناصب الدينية إلى حين مجيء الاحتلال الروماني. ومن المفترض أن يكون حكم الإعدام قد صدر عن مجموع من القضاة، إذ لا يملك القاضي وحده صلاحية إصدار مثل هذا الحكم. لكنّ ذلك لم يمنع حنّا مِن ممارسة سلطته في استجواب سيدنا عيسى (سلامُهُ علينا) الذي حُكم عليه بالإعدام فيما بعد.

§الفصل الثامن عشر:24 حنّا هو كبير الأحبار الذي سبقت الإشارة إليه. وهو الذي استجوب سيدنا عيسى (سلامُهُ علينا) ثم أرسله إلى قيافا كبير الأحبار الذي يعترف به الرومان.

*الفصل الثامن عشر:28 كان اليهود يعتقدون أنّ من دخل بيت أجنبي غير يهودي تصيبه النجاسة.

الفصل الثامن عشر:32 لم يكن يُسمح لغير الرومان بتنفيذ الحكم بالإعدام، لذا تحقّقت نبوءة سيدنا عيسى (سلامُهُ علينا) في أنّه سيموت صلبًا تبعًا لطريقة الرومان في تنفيذهم حكم الإعدام، أمّا طريقة اليهود في تنفيذ الإعدام، فكانت الرجم.

الفصل الثامن عشر:33 في حال اعترف المسيح (سلامُهُ علينا) بأنّه ملك، فإنه يحاكم على أنّه متمرّد وبالتالي يحكم عليه بالصلب.

§الفصل الثامن عشر:34 سؤال بيلاطس هنا ملتبس. لذلك سأله السيد المسيح ليعرف الهدف من سؤاله عن طبيعة مُلكه، لأنّ المسيح (سلامُهُ علينا) لم يكن يدّعي المُلك على مقاطعة من مقاطعات الرومان، إنّما كان قصده المُلك الروحي الشامل.