الفصل الرّابع عشر
الشّفاء في يوم الرّاحة المقدّس
وفي أحَدِ أيّامِ السَّبتِ، جاءَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) إلى بَيتِ أحَدِ كِبارِ المُتَشَدِّدينَ ليَتَناوَلَ مَعَهُ الغَداءَ، وكانَ هؤلاء يُراقِبونَهُ، وإذا برَجُلٍ يَقِفُ أمامَهُ مُنتَفِخَ اليَدَينِ والرِّجلَينِ لأنّهُ كانَ مُصابًا بمَرَضِ الاستِسقاءِ، فسألَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) المُتَشَدِّدينَ وعُلماءَ التّوراةِ بقَولِهِ: “ماذا تَقولونَ في الشِّفاءِ في السَّبتِ، أحَلالٌ هو أم حَرامٌ؟!” فامتَنَعوا عَن إجابتِهِ، فأخَذَ (سلامُهُ علينا) بيَدِ المَريضِ وشَفاهُ وأمَرَهُ بالانصِرافِ. والتَفَتَ ثانيةً إلى المُتَشَدِّدينَ قائلاً: “أوَلاَ تَقومونَ حقّا بالعَمَلِ في السَّبتِ؟! فإذا سَقَطَ لواحدٍ مِنكُم ابنُهُ أو ثَورُهُ في بِئرٍ يَومَ السَّبتِ أفَلا يُسرِعُ إلى انتِشالِهِ؟” فبَقِيَ المُتَشَدِّدونَ صامِتينَ لِعَجزِهِم عَن الإجابةِ.
التّواضع والإحسان
ولاحَظَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) في ذاتِ المَجلِسِ، المَدعُوّينَ يَتَخَيَّرونَ مَجالِسَ الصَّدارةِ، فانتَهَزَ الفُرصةَ ليَنصَحَهُم قائلاً: “إذا دَعاكَ أحَدٌ إلى وَليمةِ عُرسٍ، فلا تَختارَنَّ الجُلوسَ في مَقاعدِ الصَّدارةِ، فقد يَكونُ هذا المَقعَدُ لِمَن هو أجَلُّ مَقامًا بَينَ المَدعوّينَ، فإذا جَلَستَ جاءَكَ صاحِبُ العُرسِ وقالَ لكَ: “أخلِ لهُ مَقعَدَكَ”. فأحرَجَكَ فانسَحَبتَ خَجَلاً لِتَجلِسَ في آخِرِ مَقعَدٍ. 10 لذلِكَ إذا دُعيتَ، فاختَرْ الجُلوسَ في المَكانِ الأخيرِ، حتّى إذا رآكَ صاحِبُ العُرسِ أتى إليكَ وقالَ: “تَفَضَّلْ يا صاحِبي لِتَجلِسَ في مَكانٍ أفضَلَ”. مِمّا يَرفَعُ في نَظَرِ الحاضِرينَ قَدرَكَ، 11 إن كُلَّ مَن تَعالَى بنَفسِهِ وَضَعَهُ اللهُ، وكُلُّ مَن تَواضَعَ رَفَعَهُ اللهُ”.
12 والتَفَتَ عيسى (سلامُهُ علينا) إلى المُضيفِ ناصِحًا: “إذا أقَمتَ غَداءً أو عَشاءً فلا تَقتَصِرَنَّ في دَعوتِكَ على الأصحابِ والإخوانِ والأقرِباءِ، ولا على الجيرانِ مِن الأغنياءِ، حتّى إذا أقاموا حَفلةً دَعوكَ فتَنالُ بذلِكَ مِنهُم على إحسانِكَ في دَعوتِهِم جَزاءً وثَوابًا، 13 بل ادعُ المَساكينَ والمُعاقينَ والعُرجانَ والعُميانَ، فيُبارِكُ بذلِكَ اللهُ فيكَ، 14 لأنّ هؤلاءِ لا يَملِكونَ ما يَرُدّونَ بِهِ على إحسانِكَ لهُم، فتَنالَ الجَزاءَ مِن رَبِّكَ يومَ القيامةِ مَعَ الصّالِحينَ”.
مثل الوليمة والمدعوّين
15 وقالَ أحَدُ الجالِسينَ حَولَ المائدةِ عِندَ سَماعِ كَلامِهِ (سلامُهُ علينا): “هَنيئًا لِمَن سيَأكُلونَ على مَوائدِ الرَّحمَنِ في المَملَكةِ الرَّبّانيّةِ!” 16 فقالَ (سلامُهُ علينا): “أقامَ رَجُلٌ وَليمةً فاخِرةً، ودَعا إليها جَمعًا كَبيرًا مِن النّاسِ، فقَبِلَ هؤلاءِ الدَّعوةَ. 17 ويومَ حَضَرَت المائدةُ أرسَلَ المُضيفُ عَبدَهُ لإخبارِ المَدعوّينَ بأنَّ كُلَّ شَيءٍ جاهِزٌ لاستِقبالِهِم، 18 ولكنّهُم أخَذوا، دونَ استِثناءٍ، يَعتَذِرونَ بأعذارٍ يُسيئونَ فيها لصاحِبِ الدَّعوةِ. فقالَ أحَدُهُم: “عُذرًا، قد اشتَرَيتُ حَقلاً وإنّي مُضطَرٌّ للذَّهابِ الآنَ لِمُعاينتِهِ”. 19 وقالَ آخَرُ: “قُمتُ بابتِياعِ خَمسة أزواجٍ مِن الثِّيرانِ، ولا بُدّ لي الآنَ مِن مُعاينَتِها لأرى هل تَصلُحُ للحِراثةِ أم لا، فعُذرًا”. 20 واعتَذَرَ آخرُ عَن الدَّعوةِ بقولِهِ: “إنّي حَديثُ العَهدِ بالزَّواجِ، فلَيسَ بمَقدوري الحُضورُ”.
21 وعادَ العَبدُ ليُخبِرَ مَولاهُ بما حَصَلَ، فثارَ غَضَبُ صاحِبِ الوَليمةِ وأمَرَ عَبدَهُ بقَولِهِ: “انطَلِقْ في الحالِ في الشَّوارعِ والأزقّةِ، وعُد بالمَساكينِ والمُعاقينَ والعُرجانِ والعُميانِ”. 22 فنَفَّذَ العَبدُ أمرَ مَولاهُ، وعِندَ عَودتِهِ أخبَرَهُ قائلاً: “لقد قُمتُ بما أمَرتَني بِهِ، وما زالَ في المَكانِ مُتّسَع للكَثيرينَ”. 23 فقالَ لهُ سَيِّدُهُ: “انطَلِقْ خارِجَ المَدينةِ، وجُبْ الطُّرُقاتِ والمَزارِعَ، وكُنْ في دَعوتِكَ النّاسَ مُصِرًّا على قَبولِهِم ولَبِقًا، فيَمتَلِئَ البَيتُ بِهِم، 24 أمّا هؤلاء الّذينَ دَعوناهُم ولم يأتوا، فلن يَذوقوا لُقمةً مِن هذا العَشاءِ!”
عيسى (سلامُهُ علينا) وشرط اتّباعه
25 وأثناءَ مَسيرِهِ (سلامُهُ علينا) كانَت أفواجٌ مِن النّاسِ تُرافِقُهُ في الطَّريقِ، فالتَفَتَ إليهِم قائلاً: 26 “مَن أرادَ مِنكُم أن يَكونَ مِن أتباعي، فلتَكُنْ مَحبّتُهُ لي أكثرَ مِن مَحبّتِهِ لأبيهِ وأُمِّهِ وزَوجِهِ وأولادِهِ وإخوانِهِ وأخَواتِهِ، بل أكثَرَ مِن مَحَبّتِهِ لنَفسِهِ أيضًا، وإلاّ فلن يَكونَ مِن أتباعي. 27 ولا يُمكِنُ أن يَكونَ مِن أتباعي مَن لم يَكُن مُستَعِدًّا للتَّضحيةِ بنَفسِهِ مَوتًا على الصَّليبِ.
28 وأقولُ: لِنَفرِضْ أنّ أحَدَكُم عَقَدَ عَزمَهُ على تَشييدِ بُرجٍ، فعَلَيهِ أن يَجلِسَ ويَحسِبَ كُلفةَ إنجازِهِ، فإن كانَ قادِرًا عليها أنجَزَ ما عَزَمَ عليهِ وإلاّ عَدَلَ عن ذلِكَ. 29 وإذا غامَرَ فباشَرَ البِناءَ دونَ تَحَقُّقِهِ مِن قُدرتِهِ على ذلِكَ فسيَكونُ مَوضِعَ سُخريةٍ بَينَ النّاسِ 30 فيَقولونَ: “باشَرَ هذا الرَّجُلُ البِناءَ دونَ أن يَكونَ قادِرًا على إتمامِهِ!”
31 وكذلِكَ شأنُ المَلِكِ الّذي يُواجِهُ خَصمًا مِن المُلوكِ دونَ استِشارةِ حاشيتِهِ حتّى يَرى إن كانَ قادِرًا بعَشَرةِ آلافِ جُنديٍّ على مُواجَهةِ خَصمِهِ الآتي إليهِ بعِشرينَ ألفٍ، 32 أو إن كانَ عليهِ، ما دامَ عَدوُّهُ بَعيدًا عَنهُ، أن يَلجَأ إلى المُصالَحةِ فيُرسِلَ وفدًا يَسألُ عَدوَّهُ عَن شُروطِهِ. فالمَلِكُ الّذي لا يَفعَلُ ذلِكَ يَكونُ مَوضِعَ سُخريةٍ. 33 ومِن هَذينِ المَثَلَينِ تُدرِكونَ أنّكُم لن تَستَطيعوا اتِّباعي إلاّ إذا تَخَلّيتُم عن كُلِّ ما لَدَيكُم مِن مُمتَلَكاتٍ.
34 إنّ مَثَلَ أنصاري كمَثَلِ المِلحِ في جَودتِهِ، ولكن إذا فَقَدَ المِلحُ طَعمَهُ، ما استَطاعَ أحَدٌ أن يُرجِعَهُ إليهِ! 35 وحينَئذٍ، لن يَصلُحَ هذا المِلحُ لا للفُرنِ ولا للسَّماد، بل سيُلقَى بَعيدًا.* كان الملح يستعمل أحيانا ليجعل الزِبل طازجًا كسماد، كما كان يستعمل كعنصر يساعد اشتعال الزِبل المجفّف في الفرون المصنوعة من الطين في ذلك العصر. لذلك إذا فقد الملح ملوحته، أصبح غير مفيد لهذه الأهداف. فَلْيَسمَع السّامِعونَ، ولْيَفقهِ المُتَبَصرِّونَ!”

*الفصل الرّابع عشر:35 كان الملح يستعمل أحيانا ليجعل الزِبل طازجًا كسماد، كما كان يستعمل كعنصر يساعد اشتعال الزِبل المجفّف في الفرون المصنوعة من الطين في ذلك العصر. لذلك إذا فقد الملح ملوحته، أصبح غير مفيد لهذه الأهداف.