تقدمة
منصف الوهايبي
لم أجد أنمّ على هذا النصّ “مزامير داود” وأدلّ على شعريّته العالية، وأنا أوطّئ لقراءته وإنشاده، من كلمة “تقدمة” بشتّى معانيها ودلالاتها. والمزامير من أقدم كتب التقدمة والصلاة والتسابيح المعقودة على الشجن حدّ الضنى. وهي “أعجوبة الله” ابتغاء نعمته ورضوانه.
استأنست في هذا “التخريج” الشعري، بأكثر من ترجمة بالعربيّة والفرنسيّة، وعدت إلى أقدم نصّ عربي؛ وهو لحفص القوطي. على أنّي ما كنت لأشير في هذه التقدمة، إلى قضيّة شائكة مثل هذا “الأدب المستعرب”، لولا كتاب «مزامير داود». فمنذ أن شرعت في تخريج المزامير، وإعادة صياغتها شعريّا؛ كانت عدّتي نصوص المزامير المتداولة، في العربيّة والفرنسيّة تحديدا، ولكنّي لم أجد فيها ـ على أهمّيتها ـ سوى القليل ممّا كنت أَنشُده، أعني المزمور العربي كما رتّله أو أنشده قدماء العرب من المسيحيّين، وسماتِ أدائه الصوتيّة ووقفاته، وما يتعلّق منها بمخارج الحروف وصفاتها من همس وجهر وشدّة ورخاوة وأحكامها. حتّى إذا وقع بين يديّ كتاب حفص القوطي «المزامير» أو «الزبُور» في نسخته الفرنسيّة والعربيّة، أدركت قيمة هذا التراث الأدبي الذي يقع في الهامش من مشاغلنا الثقافيّة.* حقّق هذا النص وقدّم له: Urvoy, Marie-Thérèse, Le Psautier mozarabe de Hafs Le Goth, Toulouse, Presses Universitaires du Mirail, 1994.
وحفص هذا كان قد تسنّم كرسيّ قاضي عجم الأندلس في عهد الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر، وهو أحد كبار المستعربين الذين نقلوا تراث شعبهم إلى العربيّة الفصحى شعرا ونثرا. ومنه هذه المزامير التي أدارها على الرجز في خمسة آلاف وخمسمئة شطر. وكان هدفه عندما ترجمها سنة 276هـ/889م، أن تحلّ محلّ النسخ النثريّة المتداولة في عصره.
ولا يعنيني في السياق الذي أنا به، أن أقف على الأخطاء والأسقاط العروضيّة التي وقعت فيها محققة الكتاب «دو ماري ـ تيريزا إيرفوا»، فلهذا مجال آخر.
الأدب المستعرب هو سليل الفنّ الاسباني المتأثّر بالفنّ الإسلامي، وهو يكاد يكون في ثقافتنا مجهول النسب متّهَم الأصل، بالرغم من أنّ هذا الإرث ينضوي إلى الآداب العربيّة المسيحيّة في شرق البلاد العربيّة وغربها.
بل لا أثر لهذه الآداب في الشمال الإفريقي مثلا أو بلاد المغرب، وثقافتها من ثقافة الأندلس. وربّما لا تفسير لهذا المسكوت عنه، سوى الخلفيّة الدينيّة كما نفهم من دراسة محمّد الطالبي المنشورة بالفرنسيّة» المسيحيّة المغاربيّة من الفتح الإسلامي إلى الزوال». ولا أثر كذلك حتى في اسبانيا نفسها، ما عدا شذرات قليلة من شوارد الشعر والأمثال.
وقد أثار ذلك ما أثار عند المعاصرين، من سجال علميّ؛ على نحو ما نجد عند أ. جونس وغارسيا غومز. بل إنّ مجموعة المنتخبات الكبرى لـ”ج. غراف” لم تعرّج على هذا التراث الأدبي إلاّ لماما أو عرضيّا في خطف كالنبض، كما كتبت دو ماري ـ تيريزا إيرفوا.
فضلا عن أنّها لم تضمّ إلاّ نصوصا تتعلّق بشعائر العبادة في الديانة المسيحيّة مثل ترجمة مقاطع من التوراة والمزامير والأناجيل ورسائل الحواري بولس، وما يتعلّق بها من هوامش وحواشٍ وشروح، وخاصّة الأحكام الكنسيّة أو الشرعيّة الموافقة لأنظمة الكنيسة، أي تلك التي استثمرها على المستوى اللغوي ف. سيمون وهو أحد كبار مؤرّخي الاستعراب الاسباني.
والحقّ أنّه لولا الجهد المحمود الذي بذله بعض العرب والمستشرقين، لكان الزمن قد عفّى على هذا التراث، وطواه النسيان. فقد بدأت كشوفات هي أشبه بالفتوحات الجديدة، تظهر وتبرز منذ الستينات من القرن الماضي، لتغنِيَ معرفتنا المحدودة بهذه الآداب العربيّة المسيحيّة.
ومنها التقويم القرطبي (القرن العاشر وتحديدا عام 961 م) الذي كان معروفا في نسخته اللاتينيّة فقط، وهو الآن منشور في أصله العربي وترجمته اللاتينيّة الأقدم (تحقيق وترجمة شارل بيلا)، وكذلك النص الذي حقّقه ليفي ديلاّ «نصّ مستعرب عن التاريخ العالمي من نهايات القرن 13 م إلى فواتح 14 م» وتحقيقه الترجمة العربيّة لحكايات اسبانيّة، وهو نصّ كان قد ألّفه مسلم أندلسي ومسيحيّ اسباني، وما إلى ذلك من أمثلة أخرى تعزّز كلّها من وجاهة الرأي القائل بوجود أدب اسبانيّ مسيحيّي ناطق بالعربيّة، وتزيد من معرفتنا بهذه الفصحى التي كانت لها السيادة في الأندلس، وبالعلاقات التي نسجتها مع اللغات الأخرى في سلاسة عجيبة، فكانت أشبه بمسطّح عاكس يقع عليه ما يقع منها، في مجتمع أندلسيّ تعدّدت فيه الأديان والأجناس والثقافات، ورَطنَ أهله بكلّ اللهجات...صورة من كرة باسكال.
المزامير نص تباهى به اللغة نفسها، وتكفّ فيه الكتابة عن تمثل ثنائية الكاتب والمكتوب؛ ونحن لا نسوق هذه الملاحظة اصطناعا تحت تأثير المقاربة البنيوية التي تغفل في الجملة، عن سابق قصد وإضمار؛ الذاتيّةَ المبدعة من النصّ، لتنكبّ عليه قولا موضوعيّا مستقلاّ بقوانينه وعلائقه.
وإنّما نسوق هذه الملاحظة منذ البدء، ونحن واعون وعيا تامّا أو يكاد، أنّنا واقعون، لامحالة، تحت تأثير المقاربة الفينومينولوجيّة (الظاهراتيّة)، حيث الفكر لا يلاحق لحظة اشتغاله “مفكّراته” فقط، وإنّما يلاحق نفسه وهو يفكّر. فكذلك “المزامير” لغة لا تتولّى فقط تمثّل الأشياء من حولها في العالم، وإنما لغة تضطلع بتمثّل ذاتها، وهي “ترمّز” أشياء العالم و”تعلّم” عليها. لغة لا تحيل عليه، فهي لغة تحتفي بنفسها إبّان القول أو الكتابة، وتفاخر نفسها بنفسها.
ومادمنا قد ارتضينا لأنفسنا، ونحن نفتتح هذا الكلام على “المزامير” موقعا بين المتوسّلين بمفاهيم الفلسفة ومقاربتها، فإنّ ذلك من شأنه أن ييسّر علينا، منذ البداية، الإعلان عن أننا نتنحّى عن مشاغل أهل البلاغة، فليس يعنينا هاهنا أن نسعى إلى تجنيس هذا النص “المزامير” بهُويّة “الشعر” أو بهُويّة “النثر”، وليس يعنينا أن نحدّه بحدّ “الخاطرة”، ولا أن نعيّره بمعيار القصّة؛ ولا أن نقيسه بمقاييس أنماط أخرى. وإنّما الذي يعنينا أن نقبل عليه نصّا تتولى فيه اللغة العربيّة تخييل نفسها في ولع بالذات، بل في تألّه، منه تألّه الانسان مجترح، على قوّته وضعفه. إنّها ألوهيّة الرمز، إذ ليس شرف الفعل في الواقعة المباشرة الغفل من المعنى؛ فذاك أمر ميسور لكلّ كائن حيّ، بل في الترميز، أي في إقامة علاقة دلالة بين الأشياء، أي في “التدلال” (SIGNIFIANCE). وهذا أمر موكول إلى اللغة إجمالا، وإلى اللغة العربية التي نقلنا إليها هذا النصّ الممتع حتّى لكأنّه كُتب فيها وبها. موكول بل هو أمر “معنى” وجودنا، فالتدلال (خلق الدلالة) ليس واحدا، وإنّما كلّ لسان يجريه مجرى مخصوصا. والرمز ليس لاحقا على الوجود وإنّما يتنزّل في الصميم منه، أنه “بؤرة الأنطولوجيا” طبقا لشهادة “ارنست كاسيرر” (E.Kasserer). ولكن اللغة، أذ تقول وجودنا فهي تقول وجودها الخاصّ حصرا إذ لا هُويّة لنا خارج فضائها. وهي مقامنا أنّى حللنا، وهي السفر والرحلة.
قلت ما قلت إلى حدّ الآن، مأخوذا بـفتنة “المزامير”، حتّى خشيت أن أتناسى نفسي فيفلت مني عنان القول، ويغدو تنويعا على هذا النص، وما أنا بصاحبه وإنّما أنا الآخر الذي أعاد تخريجه أو الذي حاول أن يشِجَه ثانية بالشعر لغةِ البشر الأمّ. ولو أنّي كنت صاحبه لأطلقت متعمّدا عنان القول؛ فعادة ما نرغب في أن نكون شركاء في النصّ الذي نحبّه، بل نرغب في أن نكون أصحابه دون سوانا. وتلك على ما أعلم، جبلّة خُصّ بها من فتنته الكلمات. لكنّي تعقّبت قولي ببعض قسوة أحيانا فمسكته حتى لا يوهم بامتلاك ما ليس له، وتغاضيت أحيانا أخرى ضعفا عن مغالبة الإعجاب.
يبدو لي أنّ “المزامير” نصّ تروي فيه لغته سيرتها، ترويها في الظاهر، ضمن إيهام القارئ بأنّ النبي الشاعر إنّما يؤرّخ لتدرّج اكتسابه ملكة اللغة وتناضج قدرته على الكلام. ولكنّي أتأوّل الأمر على غير ظاهره ولا جناح عليّ. وليس هذا لأنّ مسعى التأويل هو أبدا قلب الباطن على الظاهر، ولكن لأنّ اللغة تتبدّى في “المزامير” وقد احتلت موقع الكاتب لتغدو كاتبة ذاتها وهي تكتبه هو.
ولذلك أتأوّل “المزامير” على أنّها تبديد للوهم الماثل في أنّ الإنسان يتدبّر أمر كينونته وينضجها على نار أصواتها وتراكيبها ومفاصلها، فكلّما أحبّ كانت هي التي تحبّ من خلالها؛ وكان المحبوب من جنسها أيضا. وكلّما ارتجف منه الجسد بهذه المناسبة أو تلك كانت هي التي ترتجف تحت جلدته أصواتا وتراكيب ومعانيَ، بل كانت هي الجسد عينه. وفي الجملة تكون الحياة كلّها استعارة لغويّة، وقد سبق لنيتشه أن قال عن “الحقيقة” بأنّها حشد متدافع من الاستعارات والكنايات، ومن ضروب تشبيه الاشياء بالإنسان. ولكنّ المخلوق كان مكابرا فاستحوذ لخاصّة ذاته على ما للخالق: ألوهيّة اللغة وكونها رحم الخلق.
على أنّها ليست خالقا متعاليا يقذف بمخلوقاته مرّة واحدة، وإلى الأبد، وإنّما اللغة خالق “ينخلق” هو نفسه في علاقة تضمّن بمخلوقاته.
تناظر فريد بين الخالق والمخلوق، ذاك الذي يجري بين اللغة والمتكلّم في هذه المزامير. بل هو تضمّن عزيز ذاك الذي يداخل به كلّ منهما الآخر، فإذا حبّة الشهوة تنغلق على طرف اللسان لحظة تنغلق في الجسد. وفي كلّ ذاك تكون سيرة المتكلّم سيرة اللغة نفسها فهي التي تنبسط عندما ينبسط، وهي التي تنقبض عندما ينقبض وهي التي... عندما هو الذي...
يتبدى لي إذنْ، أنّ “المزامير” هي اللغة إذ تكفّ عن أن تقول نفسها في خطاب دينيّ خالص، وإنّما لتقول نفسها في خطاب إبداعي يلوي عنق الاستعارة على كتف المجاز، وتلتفّ فيه يمنى التشبيه بيسرى الكناية. لأقل هذا شعر يقول نفسه بغير لغة الشعر المألوفة: مفارقة ما أبهاها وما أشهاها إلى النفس.
إنّ التجربة الشعريّة لا تنفصل عن تجربة الحياة، وما نعدّه شعرا، إنّما هو تحويل شكل لغويّ إلى شكل من أشكال الحياة، وتحويل شكل من أشكال الحياة إلى شكل لغوي، كما بقول هنري ميشونيك عن حقّ. ماذا تعني كلمة شعر؟ أقدّر أنّ ذلك يجري بمنأى عن كلّ التعريفات الثقافيّة والشكليّة التي تقوم على الخلط بين الشعر وأبيات الشعر: إنّ مردّ البيت إلى الوزن، فهو تقنين شكليّ. وليس ثمّة أكثر سوءا من الخلط بين الأبيات والشعر. لقد كان فيكتور هيغو يعرف هذا، وهو القائل: “لا أحبّ بيت الشعر، إنّما أحبّ الشعر”، وقبله قال ذلك أرسطو أيضا. ما أسمّيه قصيدا هو شيء ما يغيّر الحياة ويغيّر اللغة في آن، انطلاقا ممّا أعيشه. وأقدّر أنّ هذه مزيّة المزامير.
كلّ مزمور هو قصيد، وكلّ قصيد هو شكل حياة يغيّر اللغة، وشكل لغويّ يغيّر شكلا من أشكال الحياة. النصوص السرديّة العظيمة، هي عظيمة لأنّها تحمل قصيدا في مطاويها. الآثار الفلسفيّة العظيمة يجري فيها القصيد هي أيضا. والمزامير على ما يتهيّأ لي من قراءاتي، تستمدّ إيقاعها أي تنظيم حركة الكلام الذي تؤدّيه ذات تقوم بتوزيع كلّ نظريّة اللغة لغة القصيد، من إيقاعات العبريّة التوراتيّة التي أجهلها للأسف.
وإنه لمن تفريد القول وتنسيبه ينبثق المعنى، فالمعاني لا تسبح هائمة في كليّة اللغة، وإنّما تتولّد تولّدا لحظة تَلْبِسُ الكلام بالمتكلّم، فهي (أي المعاني، في تلك الحال، محطّ تأويل ومجرى تشقيق وتجريح، وكلّها وسائط للغة تفصح بها عن نفسها وتعلن).
وهل لنا أن نعلّق على اللغة بغير اللغة؟!
أ.د. منصف الوهايبي
بسم الله تبارك وتعالى
مزامير العشق الإلهي
نفحات من كتاب الزّبور للنّبيّ داود
المزمور الأوّل
ألا لِيَقَرَّ عَينًا، ذاكَ الّذي لا يَستَرشِدُ بِنَصائِحِ الأثَمَةِ
الّذي لا يَسلُكُ طَريقَ الخَطّائِينَ
ولا يُجالِسُ المُستَهزِئينَ
بَل كانَ هَواهُ كِتابَ اللهِ
يَتلُوهُ وَيُرَدِّدُهُ آناءَ اللَّيلِ وأَطرافَ النَّهارِ
مَثَلُهُ مثَلُ شَجَرةٍ غُرِسَتْ على مَجرَى ماءٍ
تُؤتي أُكْلَها في وَقتِهِ
وَوَرَقُها لا يَذوِي أبَدًا
لَقَد أَفلَحَ في كُلِّ ما عَمِلَ وَأَتَى
وما هَكَذَا الكَفَرَةُ
مَثَــلُهُم مَثَــلُ عَصْفٍ مَأكُولٍ
لا الكَفَرَةُ يَومَ الحِسابِ يَثبُتونَ
ولا الخَطَّاؤُونَ مَعَ الأبرارِ يُحشَرونَ
هُوَ اللهُ يَرعَى سُبُلَ الصّالِحينَ
أمّا الّذينَ تُلقي بِهِم سُبُلُهُم إلى التَّهلُكَةِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الخَطّاؤونَ.

*^ حقّق هذا النص وقدّم له: Urvoy, Marie-Thérèse, Le Psautier mozarabe de Hafs Le Goth, Toulouse, Presses Universitaires du Mirail, 1994.