الفصل الثّالث
اليهود وغير اليهود خطّاؤون
قد يَبدو مِن الكَلامِ السّابِقِ أنّهُ لا فَضلَ لِليَهودِ على سائِرِ النّاسِ، وأنّهُ لا فائدةَ مِن الخِتانِ لأحَدٍ. ولكنّ الحَقيقةَ أنّهُم يَحظَونَ بامتِيازاتٍ كَثيرةٍ، أهَمُّها أنّ اللهَ ائتَمَنَهُم على كَلامِهِ، فكَيفَ لو كانَ بَعضُهُم غَيرَ أمينٍ؟ أيُبطِلُ عِصيانُهُم وَفاءَ اللهِ؟ كَلاّ! صَدَقَ اللهُ ولو كَذَبَ كُلُّ النّاسِ، فلقَد وَرَدَ في الزَّبورِ: “اللّهُمَّ أنتَ صادِقٌ في حُكمِكَ عِندَما تَحكُمُ عليّ لأنّي مُذنِبٌ، وأنتَ على الحَقِّ عِندَما تَدينُ”.* كتاب الزبور، مزمور 51: 4.
وقد يَقولُ أحَدٌ مِن بَني يَعقوبَ: “إن لم نُخلِصْ لِميثاقِ اللهِ، فلا ضَرَرَ، لأنّهُ بفَسادِنا سيَظهَرُ وَفاءُ اللهِ لِعُهودِهِ بشَكلٍ أوضَح، ألَيسَ مِن الظُّلمِ إذن أن يُنزِلَ اللهُ علينا عِقابَهُ؟” إنّ هذا سُؤالٌ لا يَتَجاوَزُ وُجهةَ نَظَر بَشَريّة! حاشا للهِ! كَيفَ يَكونُ اللهُ ظالِمًا لعِبادِهِ؟ فإن لم يَكُن حاكِمًا عادِلاً على ذُنوبِ بَني يَعقوبَ وخَطاياهُم، فهل يَكونُ عادِلاً حين يَحكُمُ على البَشَرِ أَجمَعينَ؟!
وقد يَحتَجُّ أحَدُهُم قائلاً: “إن كانَ عَدم إخلاصي للهِ يُظهِرُ أنّهُ وَفيٌّ لوعودِهِ، فكَيفَ أكونُ إذَن مُذنِبًا وذَنبي يَكشِفُ جَلالَ اللهِ؟” وإنّ بَعضَ النَّاسِ يَفتَرونَ علينا نَحن الحَوارِيّينَ حينَ يَنسِبونَ إلينا هذا القَولَ: “لماذا لا نَفعَلُ الشّرَّ لكَي يأتي مِنهُ الخَيرُ؟” فلِيَتَنَزَّل العِقابُ العادِلُ على مَن افتَرى علينا هذا الافتِراءَ!
فما هي خُلاصةُ الأمرِ إذن؟ أَتُرى اللهَ يُحابينا نَحن بَني يَعقوبَ فيُحسِنُ إلينا دونَ الآخرينَ؟ كَلاّ، فلقَد أكّدتُ آنِفًا أنّ اليَهودَ وسائِرَ الأُممِ مُتَساوونَ، وأنّهُم تَحتَ وَطأةِ ذُنوبِهِم وخَطاياهُم. 10 كَما جاءَ في كِتابِ اللهِ: “لا أحَدَ مُخلِصٌ للهِ أبَدًا، 11 ولا أحَدَ يَفهَمُ حقَّ اللهِ، ولا أحَدَ يَطلُبُ اللهَ، 12 كُلُّهُم ضَلّوا وفَسَدوا، فلا أحَدَ يَعمَلُ الخَيرَ، لا أحَدَ. 13 كَلامُهُم عَفِنٌ كرائحَةِ قَبرٍ مَفتوحٍ، أَلسِنتُهُم لا تَنطُقُ إلاّ بالخِداعِ والمَكرِ، وعلى شِفاهِهِم سُمُّ الثّعابينِ، 14 وفي أفواهِهِمُ اللَّعنُ والكَلامُ المَريرُ. 15 كُلُّهُم يُسارِعونَ إلى سَفكِ الدِّماءِ، 16 يَنشُرون الخَرابَ والبؤسَ في الطُّرُقِ الّتي يَسلُكونَها، 17 ويَجهَلونَ طَريقَ السّلامِ، 18 ولا يَتَّقونَ اللهَ أبَدًا”. يقتبس الحواري بولس هنا (حسب الترتيب الوارد في الرسالة) من كتاب الزبور، مزمور 14: 1‏-3 ، ومن كتاب الخطيب الحكيم (أي سفر الجامعة) 7: 20، ومن مزمور 5: 9، ومن مزمور 140: 3، ومن مزمور 10: 7، ومن أشعيا 59: 7‏-8، ومن مزمور 36: 1.
19 إنّ هذِهِ الأقوالَ هي مِن كُتُبِ الأنبياءِ. وكَما تَعرِفونَ، فإنّ أهلَ الكِتابِ تَحتَ حِمايتِهِ. فَقَصدُ الكِتابِ أن يَرُدَّ أعذارَ النّاسِ وما يَحتَجّونَ بِهِ، يَهودًا كانوا أم مِن سائرِ الشُّعوبِ، وأن يُبَيِّنَ لهُم أنّ قِصاصَ اللهِ يُطَبَّقُ على كُلِّ البَشَرِ. 20 فاللهُ لا يَرضى عن أحَدٍ بتَمَسُّكِهِ بشَكليّاتِ التّوراةِ، وإنّما تَهدُفُ التّوراةُ إلى جَعلِنا واعينَ حَقيقة الإثمِ في حَياتِنا. وردت كلمة “شكليات التوراة” هنا كترجمة لكلمة “إيرغون نومو” ergon nomou اليونانية، وهي تدلّ في هذا السياق على مجموع العادات والتقاليد الإنسانية المتّبعة لمرضاة الله. فقد أمر سبحانه في التوراة بني يعقوب أن يتّبعوا عادات وتقاليد معيّنة لتساعدهم على عبادته والعيش بسلام فيما بينهم. وقد حاول بنو يعقوب وعلماؤهم وأحبارهم تأويل هذه العادات والتقاليد وسط تقلّبات ظروف حياتهم. وواصل سيدنا عيسى (سلامه علينا) تأويل هذه العادات والتقاليد إذ قال (سلامه علينا) إنّ التوراة تُختصَر في وصيّتين هما: “أحبَّ الله” و”أحبَّ جارك” (انظر متى 22: 37- 40). وحاول الحواري بولس أيضًا تأويل هذه العادات والتقاليد عندما اعتبر أن القبول عند الله يكون بواسطة الإيمان لا بواسطة اتّباع التقاليد والعادات القديمة لبني يعقوب (انظر هذه الرسالة، 3: 28).
القبول عند الله بحقّ السّيّد المسيح
21 ولقد أظهَرَ اللهُ أنّهُ أمينٌ في كُلِّ وُعودِهِ بِغَضِّ النَّظَرِ عن الشَّرعِ اليَهوديِّ، كَما وَرَدَ في التّوراةِ وصُحُفِ الأنبياءِ الأوّلينَ. 22 واللهُ يُبَيِّنُ صِدقَهُ لعُهودِهِ عِندَما يَرضى عنّا لأنّ سَيِّدَنا عِيسَـى المَسيحِ مُخلِصٌ لِما كَلَّفَهُ بِهِ، فلا فَرقَ في ذلِكَ بَينَ يَهوديٍّ أو غَيرِهِ، فاللهُ يَختارُ مَن يُخلِصُ لهُ في الإيمانِ، 23 لأنّ كُلَّ النّاسِ يُخطِئونَ ولا يَبلُغونَ المَقامَ المَجيدَ الّذي أرادَهُ اللهُ لهُم. 24 لكنّهُ رَضي عنّا بفَضلِهِ مِن خِلالِ سَيِّدِنا عيسى المَسيحِ عِندَما حَرَّرَنا دونَ مُقابِل مِن آثامِنا، 25 وعَيَّنَهُ ليُضَحّي بحَياتِهِ حَتّى يَمحوَ ذُنوبَ المؤمنينَ، فيَرضى عنّا حينَ نَتَّكِلُ على تَضحيتِهِ بدَمِهِ في سَبيلِ النّاسِ. وهكذا تَظهَرُ أمانةُ اللهِ لوعودِهِ، لأنّهُ كانَ حَليمًا على الّذينَ أذنَبوا سابِقًا، فامتَنَعَ عن عِقابِهِم. 26 وأمهَلَهُم حتَّى يُظهِرَ رِضاهُ في الوَقتِ الحاضِرِ، فاللهُ يَرضى عن كُلِّ مَن كانَ تابِعًا مُخلِصًا لسَيِّدِنا عِيسَى، وإنّ هذا دَليلٌ على أنّهُ أَعدَلُ الحاكِمينَ.
الله هو ربّ النّاس جميعًا
27 مِن الخَطَإ أن يَتَباهى بَنو يَعقوبَ بأنّهُم مُفَضَّلونَ، فلا مَجالَ لِلتَّباهي أبَدًا، ونَحن لا نَكتَرِثُ بشَكليّاتِ التّوراةِ، بل نَهتَمُّ بالإيمانِ! 28 وخُلاصةُ حَديثِنا أنّ اللهَ يَرضى عن الإنسانِ لإيمانِهِ بسَيِّدِنا المَسيحِ، لا لِتَمَسُّكِهِ بشَكليّاتِ التّوراةِ. 29 فهل يَكونُ اللهُ رَبَّ اليَهودِ فقط، أم هو رَبُّ النّاسِ جَميعًا؟ لا رَيبَ أنّه رَبُّ النّاسِ جَميعًا! 30 فاللهُ فَردٌ صَمَدٌ، والطَّريقُ إلى مَرضاتِهِ واحِدةٌ لا تَتَعَدَّدُ، وهي طَريقُ هذا الإيمانِ، سَواءٌ كُنّا مِن بَني يَعقوبَ أم مِن سائِرِ الشُّعوبِ. 31 فهل نَعني بكُلِّ هذا أنّنا نُلغي التّوراةَ؟ كَلاّ، لا سَمَحَ اللهُ! بل إنّنا بإيمانِنا نُسانِدُ التَّوراةَ.§ لم يكن بولس ينوي الطعن في التوراة أو إلغاؤها أو نسخها عندما قال إن القبول عند الله لا يكون باتّباع العادات والتقاليد التوراة، بل كان يتصدّى فقط لليهود الذين يسيئون استخدام التوراة عندما حصروا وظيفتها الأساسيّة في كونها علامة تميّزهم عن غيرهم. ومن هنا تتجلّى القيمة الإيجابية التي أولاها بولس للتوراة رغم انتقاده لليهود الذين يفرضون على غيرهم اتّباع العادات والتقاليد المذكورة فيها.

*الفصل الثّالث:4 كتاب الزبور، مزمور 51: 4.

الفصل الثّالث:18 يقتبس الحواري بولس هنا (حسب الترتيب الوارد في الرسالة) من كتاب الزبور، مزمور 14: 1‏-3 ، ومن كتاب الخطيب الحكيم (أي سفر الجامعة) 7: 20، ومن مزمور 5: 9، ومن مزمور 140: 3، ومن مزمور 10: 7، ومن أشعيا 59: 7‏-8، ومن مزمور 36: 1.

الفصل الثّالث:20 وردت كلمة “شكليات التوراة” هنا كترجمة لكلمة “إيرغون نومو” ergon nomou اليونانية، وهي تدلّ في هذا السياق على مجموع العادات والتقاليد الإنسانية المتّبعة لمرضاة الله. فقد أمر سبحانه في التوراة بني يعقوب أن يتّبعوا عادات وتقاليد معيّنة لتساعدهم على عبادته والعيش بسلام فيما بينهم. وقد حاول بنو يعقوب وعلماؤهم وأحبارهم تأويل هذه العادات والتقاليد وسط تقلّبات ظروف حياتهم. وواصل سيدنا عيسى (سلامه علينا) تأويل هذه العادات والتقاليد إذ قال (سلامه علينا) إنّ التوراة تُختصَر في وصيّتين هما: “أحبَّ الله” و”أحبَّ جارك” (انظر متى 22: 37- 40). وحاول الحواري بولس أيضًا تأويل هذه العادات والتقاليد عندما اعتبر أن القبول عند الله يكون بواسطة الإيمان لا بواسطة اتّباع التقاليد والعادات القديمة لبني يعقوب (انظر هذه الرسالة، 3: 28).

§الفصل الثّالث:31 لم يكن بولس ينوي الطعن في التوراة أو إلغاؤها أو نسخها عندما قال إن القبول عند الله لا يكون باتّباع العادات والتقاليد التوراة، بل كان يتصدّى فقط لليهود الذين يسيئون استخدام التوراة عندما حصروا وظيفتها الأساسيّة في كونها علامة تميّزهم عن غيرهم. ومن هنا تتجلّى القيمة الإيجابية التي أولاها بولس للتوراة رغم انتقاده لليهود الذين يفرضون على غيرهم اتّباع العادات والتقاليد المذكورة فيها.