مدخل إلى سيرة الحواريّين
اختار الله لوقا الطبيب لتسجيل هذا الوحي، وهو تكملة لسجلّه الأوّل الذي دوّن فيه سيرة سيدنا المسيح المنتهية بصعوده إلى السماء. وهذا السجلّ الثاني يبدأ من لحظة الصعود تلك، ويتواصل مبيّنا كيف أنّ الحواريين (خصوصا بطرس وبولس)، وأتباع آخرين لسيدنا عيسى نشروا رسالته بفضل قوّة روح الله. ولأنّ لوقا كان رفيقا ملازما للحواري بولس، كما ذكرنا في المدخل إلى سجلّ لوقا الأوّل، فإنّ معظم ما دوّنه لوقا في هذا السجلّ هو عبارة عن شهادة عيان.
تبدأ السيرة بالتذكير بالوعد الذي أعطاه السيد المسيح (سلامُهُ علينا) إلى أتباعه بأن يظلّ معهم بواسطة روح الله التي سوف يرسلها إليهم لتقوّيهم حتّى ينشروا بشائر المملكة الرّبّانيّة في كلّ أرجاء المعمورة (1: 8). ثمّ تسترسل السيرة في ذكر تفاصيل تحقيق ذلك الوعد بإعلان الأتباع بشائر الرسالة، وتلَقّيهم هِبَة صنع المعجزات برهانا على صدق دعوتهم.
وقد واجه الحواريون، والرّعيل الأوّل من الأتباع سؤالا هامّا هو “من يحقُّ له الانتماء إلى شعب الله”؟ ولأنّ سيدنا عيسى وأتباعه الأوائل كانوا من بني يعقوب، فقد كان طبيعيا بالنسبة للبعض الاعتقاد بأنّ رسالة السيد المسيح موجَّهة لليهود وحدهم، وحتّى مَن آمن بالرسالة من غير اليهود كان عليه أن يصبح يهوديا كي يقبله الله! وقد نوقشت هذه المسألة بين الحواريين، إلاّ أنّ الله أكّد قبوله لجميع الناس، بغضِّ النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية، وذلك عبر الرؤى التي أراها لبولس (سيرة الحواريين 26: 12‏-18) وبطرس (10: 9‏-16) وأيضا عبر المعجزات العظيمة التي حدثت لحظة إيمان غير اليهود بسيدنا عيسى (أنظر على سبيل المثال سيرة الحواريين 10: 44‏‏-48؛ 13: 6‏-12).
وكما سبق أن أخبر السيد المسيح، فقد تعرّض أتباعه لاضطهاد شديد، ولكنّهم حَظُوا بتأييدٍ من روح الله بالصبر لمواصلة نشر الرسالة، فكثرت أعداد المؤمنين، وعمّت الرسالة أرجاء الإمبراطورية الرومانية، تماما كما كان قد تنبّأ سيدنا عيسى (متّى 13: 31‏-33)، ذلك أنه لا شيء يمكن أن يحدَّ من انتشار كلمة الله في كلّ مكان.
بسم الله تبارك وتعالى
سيرة الحَواريّين
الوحي الّذي سجّله لوقا الطّبيب
الفصل الأوّل
الوعد بروح الله
أيُّها المُبَجَّلُ حَبيبُ اللهِ، كُنتُ قد أخبَرتُكَ في كِتابي الأوّلِ* وهذه العبارة تشير إلى الوحي المتعلّق بسيرة المسيح الذي سجّله لوقا الطبيب. بكُلِّ ما قامَ بِهِ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) مِن أعمالٍ وما بَشَّرَ بِهِ مِن تَعاليمَ مُنذُ بدايةِ رِسالتِهِ إلى اليَوم الّذي رُفِعَ فيهِ إلى السَّماءِ، وكانَ قد ألقى قَبلَ ذلِكَ وبمُؤازرةِ رُوحِ اللهِ وَصاياهُ على حَواريّيهِ الّذينَ اصطَفاهُم لمُهمّةِ تَبليغِ رِسالتِهِ. وبَعدَ أن صُلِبَ (سلامُهُ علينا) وبُعِثَ حيًّا، أخَذَ يَظهَرُ لهُم مِن حينٍ لآخَر في فَترةٍ امتَدَّت أربعينَ يومًا ليُؤكِّدَ لهُم أنّهُ قد بُعِثَ حَيًّا، مُبَدِّدًا بذلكَ شُكوكَهُم. وأثناءَ هذِهِ الظُّهُورات، كانَ يُحَدِّثُهُم مُجَدَّدًا عنِ المَملكةِ الأبَديّةِ الّتي وَعَدَ اللهُ بها عِبادَهُ. وذاتَ مَرّةٍ وفيما هُم يَتناوَلونَ الطَّعامَ أوصاهُم قائلاً: “لا تُغادِروا مَدينةَ القُدس، بلِ انتَظِروا فيها حتّى حُلولِ رُوحِ اللهِ فيكُم، حَسَبَ وَعدِ اللهِ الأبِ الرَّحمنِ، الوَعدِ الّذي سَبَقَ أن أخبَرتُكُم بِهِ. وإذا كانَ تَطهيرُ النّاسِ بالماءِ مُهمّةَ النّبيِّ يَحيى، فإنّكُم ستُطَهَّرونَ بفَيضِ رُوحِ الله بَعدَ أيّامٍ قَليلةٍ”.
رفع عيسى (سلامُهُ علينا) إلى السّماء
وذاتَ مَرّةٍ بَينَما كانَ مُجتَمِعًا بِحَواريِّيهِ (سلامُهُ علينا) في جَبَلِ الزَّيتونِ سَألوهُ: “يا مَولانا، هل أنتَ عازمٌ على تَحريرِنا وإحياءِ مَملكةِ بَني يَعقوبَ في زَمَنِنا هذا؟” فأجابَهُم (سلامُهُ علينا) قائلاً: “لَيسَ لكُم أن تُحاطوا عِلمًا بأُمورٍ كهذِهِ، فاللهُ الأبُ الرَّحمنُ وَحدَهُ يُقدِّرُ المَواقِيتَ والأزمان. بل عِندَ تَجَلّي رُوحِ اللهِ القُدّوسِ عليكُم، تَحظَونَ بِالقُوّةِ والسُّلطانِ، فتَكونونَ لي شُهودًا في القُدس، وفي مَناطقِ يَهوذا والسّامرةِ، وسائرِ أصقاعِ الأرضِ”. وبَعدَ حَديثِهِ هذا لحَواريِّيهِ، ارتَفَعَ إلى السّماءِ وهُم يَنظُرونَ إليهِ، حتّى حَجَبَتهُ سَحابةٌ.
10 وبَينَما هُم شاخِصونَ بأبصارِهِم إلى السَّماءِ، ظَهَرَ لهُم فَجأةً مَلاكانِ على هَيئةِ بَشَرٍ في ثيابٍ بَيضاءَ 11 وقالا لهُم: “أيُّها الجَليليّونَ، لِمَ تَقِفونَ هكذا وأبصارُكُم شاخِصةٌ إلى السَّماء؟ إنّ عيسى (سلامُهُ علينا) الّذي تَمّ رَفعُهُ مِن بَينِكُم سيَعودُ بالطَّريقةِ نَفسِها الّتي شاهَدتُموهُ فيها يَرتَفِعُ إلى السّماء”.
12 فغادَرَ الحَواريّونَ الجَبَلَ المَعروفَ بجَبَلِ الزَّيتونِ والواقِعِ على مَسافةِ أقلَّ مِن مِيلٍ مِنَ القُدس، 13 وعِندَ وصولِهِم إلى المَدينةِ، صَعِدوا إلى الطَّبَقةِ العُليا حَيثُ مَكانُ إقامتِهِم، وكانَ هُناكَ الحَواريّونَ بُطرُسُ ويوحَنّا ويَعقوبُ وأَنْدَراوسُ وفيليبُ وتُوما وابنُ تَلْماي ومَتّى ويَعقوبُ بن حَلفي وسَمعان الوَطَنيُّ المُتَحمِّسُ ويَهوذا بن يَعقوبَ. 14 وكانوا جَميعُهُم على قَلبٍ واحدٍ في صَلاةٍ ودُعاءٍ مُتَواصِلَيْن وقدِ انضَمَّ إليهِم بَعضُ النِّسوة، ومَريمُ أُمُّ عيسى (سلامُهُ علينا) وإخوتُهُ.
اختيار خلف ليهوذا
15 وتَجَمَّعَ ذاتَ يَومٍ ما يُقاربُ المِئةَ والعِشرينَ مِنَ المُؤمنينَ. فوَقَفَ بُطرُسُ الصَّخرُ بَينَهُم قائِلاً: 16 “يا إخواني، كانَ لا بُدّ أن يَتَحَقّقَ ما جاءَ في الزَّبورِ على لِسانِ النّبيِّ داود بِوَحي رُوحِ اللهِ تَعالى، عَن يَهوذا الّذي دَلَّ العِصابةَ للقَبضِ على سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا)، 17 مَعَ أنّهُ كانَ واحِدًا مِنّا، وكانَ في ذاتِ الوَقتِ يَعمَلُ مَعَنا على نَشرِ الرِّسالةِ!” 18 ولقد اشتَرى الأحبارُ باسمِ يَهوذا قِطعةَ أرضٍ بَعدَ مَوتِهِ، بالمالِ الّذي كَسَبَ مِن شُرورِهِ. وكانَت الأرضُ نَفسُها الّتي فيها شَنَقَ نَفسَهُ، وسَقَطَ على رأسِهِ، فانشَقَّ بَطنُهُ واندَلَقَت أمعاؤهُ. وقد ورد في الوحي الذي سجّله متّى بأنّ يهوذا قبض من الأحبار مبلغًا قدره ثلاثون قطعة من الفضة مقابل خيانته للسيد المسيح. إلاّ أنّه حاول التخلّص منها لإحساسه بالذنب وأعادها إليهم، لكن الأحبار رفضوا وضعها في صندوق الصدقات لأنها مال حرام، ثم أنفقوها على قطعة أرض جعلوا منها مدفنًا للأغراب. ويبدو أنّهم اعتبروا المال ما يزال مال يهوذا لأنهم لم يضعوه في الصندوق، فلوقا بدوره يقول أن يهوذا هو من اشترى هذه القطعة من الأرض، كما أن يهوذا شنق نفسه حسب ما ورد في الوحي الذي سجّله متّى (متّى 27: 5)، ومن الممكن أن يكون بطنه قد انفجر بعد انتحاره شنقا نتيجة وقوعه أرضا. وهذه القطعة من الأرض حيث شنق نفسه، هي عينها التي اشتراها الأحبار باسمه لاحقًا. 19 ثُمّ انتَشَرَ خَبرُ هذِهِ الحادِثةِ بَينَ أهلِ القُدس، فأطلَقوا علَى ذاكَ الحَقلِ بلُغتِهِم الآراميّة لَقَبَ “حَقلُ الدَّم”.
20 وتابَعَ بُطرُسُ قائلاً: “وقد جاءَ في الزَّبورِ عن يَهوذا الخائنِ: “لَيتَ دارَهُ تَصيرُ خَرابًا، فلا يُقيمُ فيها أحَدٌ”. ووَرَدَ فيهِ أيضًا: “فليأخُذْ آخَرُ دَورَهُ”. 21‏-22 لذا علينا أن نَختارَ شَخصًا ليَكونَ شاهِدًا مَعَنا على بَعثِ سَيِّدِنا عيسى مِن المَوتِ، ولا بُدَّ أن يَكونَ هذا الشّخصُ مِن هؤلاءِ الّذينَ كانوا في صُحبتِنا دائمًا أثناءَ المُدّة الّتي قَضاها سَيِّدُنا عيسى بَينَنا، بَدءًا مِنَ الوَقتِ الّذي كانَ فيهِ النّبيُّ يَحيى (عليه السّلام) يَدعو النّاسَ إلى التَّطَهُّرِ بمياهِ نَهرِ الأُردُنّ، حتّى اليَومِ الّذي رُفِعَ فيهِ سَيِّدُنا عيسى إلى السّماءِ.
23 واقتَرَحَ الحَواريّونَ شَخصَينِ ليَكونَ أحَدُهُما البَديلَ عن يَهوذا، وهُما يوسفُ المَدعوُّ بابنِ سابا المَعروفِ أيضًا بالصِّدِّيق، ومَتِّياس، إنّ الرقم (12) كان رقمًا مقدّسًا، وذلك يعود إلى عدد عشائر بني يعقوب الاثني عشر المنحدرة من أبناء النبي يعقوب الاثني عشر. ومن هنا فإنّ تعيين سيدنا عيسى اثني عشر حواريًا دلالة على أنّه يريد بعث أمّة بني يعقوب بعثًا روحيًا جديدًا. لذا، شعر الأحد عشر حواريا بضرورة تعيين شخص مكان يهوذا، لإتمام العدد. 24 وبَدأ جَميعُهُم في الدُّعاء خاشِعينَ: “رَبَّنا أنتَ تَعرِفُ سَريرةَ كُلِّ النّاسِ، فألهِمْنا مَن مِن هذينِ الأخَوينِ مُختارُكَ 25 ليَقومَ مَعَنا بنَشرِ الرِّسالةِ بَدَلَ يَهوذا الّذي تَخَلَّى عَنها ونالَ المَصيرَ الّذي يَستَحِقُّهُ”. 26 ثُمّ رَموا القُرعَةَ بَينَهُما فوَقَعَت على مَتِّياس،§ اللّجوء إلى القرعة تقليد قديم يعود إلى مئات السنين قبل مجيء عيسى (سلامُهُ علينا)، وذلك لاختيار أشخاص يقومون بمهمّات خاصّة. وقد كان بنو يعقوب يستخدمون تلك الوسيلة لإيمانهم بسلطة الله العليا (مع أن ممارسة العرافة كانت محرّمة عندهم)، مؤكّدين من خلال تلك الوسيلة أن الاختيار النهائي لم يكن اختيارهم، إنّما هو اختيار الله تعالى. فضَمُّوهُ إليهِم ليَكونَ الحَواريّ الثَّانيَ عَشَرَ.

*الفصل الأوّل:1 وهذه العبارة تشير إلى الوحي المتعلّق بسيرة المسيح الذي سجّله لوقا الطبيب.

الفصل الأوّل:18 وقد ورد في الوحي الذي سجّله متّى بأنّ يهوذا قبض من الأحبار مبلغًا قدره ثلاثون قطعة من الفضة مقابل خيانته للسيد المسيح. إلاّ أنّه حاول التخلّص منها لإحساسه بالذنب وأعادها إليهم، لكن الأحبار رفضوا وضعها في صندوق الصدقات لأنها مال حرام، ثم أنفقوها على قطعة أرض جعلوا منها مدفنًا للأغراب. ويبدو أنّهم اعتبروا المال ما يزال مال يهوذا لأنهم لم يضعوه في الصندوق، فلوقا بدوره يقول أن يهوذا هو من اشترى هذه القطعة من الأرض، كما أن يهوذا شنق نفسه حسب ما ورد في الوحي الذي سجّله متّى (متّى 27: 5)، ومن الممكن أن يكون بطنه قد انفجر بعد انتحاره شنقا نتيجة وقوعه أرضا. وهذه القطعة من الأرض حيث شنق نفسه، هي عينها التي اشتراها الأحبار باسمه لاحقًا.

الفصل الأوّل:23 إنّ الرقم (12) كان رقمًا مقدّسًا، وذلك يعود إلى عدد عشائر بني يعقوب الاثني عشر المنحدرة من أبناء النبي يعقوب الاثني عشر. ومن هنا فإنّ تعيين سيدنا عيسى اثني عشر حواريًا دلالة على أنّه يريد بعث أمّة بني يعقوب بعثًا روحيًا جديدًا. لذا، شعر الأحد عشر حواريا بضرورة تعيين شخص مكان يهوذا، لإتمام العدد.

§الفصل الأوّل:26 اللّجوء إلى القرعة تقليد قديم يعود إلى مئات السنين قبل مجيء عيسى (سلامُهُ علينا)، وذلك لاختيار أشخاص يقومون بمهمّات خاصّة. وقد كان بنو يعقوب يستخدمون تلك الوسيلة لإيمانهم بسلطة الله العليا (مع أن ممارسة العرافة كانت محرّمة عندهم)، مؤكّدين من خلال تلك الوسيلة أن الاختيار النهائي لم يكن اختيارهم، إنّما هو اختيار الله تعالى.