الفصل الحادي عشر
ما هو الإيمان
ما هو الإيمانُ؟ إنّ الإيمانَ هو الدَّليلُ على حَقيقةِ ما نَنتَظِرُهُ مِن وُعودٍ. فَرَغمَ أنَّنا لا نَرَى ما وَعَدَنا اللهُ بِهِ، فإنّنا بِالإيمانِ نَملِكُ بُرهانَ وجودِهِ. وإنّما رَضي اللهُ عَن آبائِنا لإيمانِهِم. ونَحنُ نُدرِكُ بالإيمانِ أَنَّ اللهَ خَلَقَ الكَونَ بكَلِمةٍ مِنهُ، فكُلُّ ما نَراهُ خُلِقَ مِن عَدَمٍ!* التوراة، سفر التكوين 1: 1. إنّما بِالإيمانِ قَدَّمَ هابيلُ قُربانًا أفضَلَ مِمّا قَدَّمَه قابيلُ، وبفَضلِ إيمانِهِ رَضي اللهُ عنهُ وعن قُربانِهِ. فأصبَحَ بإيمانِهِ قُدوَةً للعالَمينَ رَغمَ موتِهِ. وإنّما بِالإيمانِ انتَقَلَ إدريسُ (عليه السّلام) إلى حَضرةِ اللهِ دونَ أن يَموتَ. فَقَد وَرَدَ في التَّوراةِ أنَّ إدريسَ اختَفى لأنَّ اللهَ رَفَعَهُ إليهِ، وقَبلَ ذلِكَ وَرَدَ في الكِتابِ أنّهُ كانَ عِندَ اللهِ مَرضيًّا. ولا يُمكِنُ أن نَبلُغَ مَرضاةَ اللهِ دونَ إيمانٍ، فكُلُّ مَن تَقَرَّبَ إليهِ، لا بُدَّ أن يُؤمنَ بِوُجودِهِ تَعالى، وبِأَنَّه يُجازي خَيرًا كُلَّ مَن يَسعى إليهِ. وبِالإيمانِ بَنى النَّبيّ نوحٌ (عليه السّلام) سَفينةً ليُنقِذَ أهلَهُ مِنَ الطّوفانِ. أطاعَ اللهَ عِندَما أَنذَرَهُ بِكارِثةٍ لا عَلاماتٍ لها ولا إشاراتٍ. وصارَ (عليه السّلام) بإيمانِهِ مِنَ المَرْضيّينَ عِندَ اللهِ، وبِإيمانِهِ أدانَ أهلَ الدُّنيا المُذنِبينَ.
وبِالإيمانِ أطاع النَّبيُّ إبراهيمُ اللهَ، عِندَما أمَرَهُ بمُغادَرةِ أرضِهِ والتَّوَجُّهِ نَحوَ الأرضِ الَّتي وَعَدَهُ اللهُ بها نَصيبًا، وخَرَجَ وهو لا يَعلَمُ أينَ يَتَّجِهُ. بالإيمانِ كانَ مُستَعِدًّا أن يَكونَ غَريبًا في سَفَرِهِ، مُنتَقِلاً مِن مَكانٍ إلى آخَرَ في كَنعانَ، تِلكَ الأَرضِ الّتي وَعَدَهُ اللهُ بِها، وكانَ يَسكُنُ وأهلَ بَيتِهِ في خِيامٍ، كَما عاشَ ابنُهُ إِسحَقُ ومِن بَعدِهِ يَعقوبُ، وهُما الفائزانِ مِثلَهُ بِوَعدِ اللهِ. 10 فقد اشتاقَ النَّبيُّ إبراهيمُ إلى رُؤيَةِ المَدينةِ المُقَدَّسَةِ الأبَديّةِ، وهي المَدينةُ ثابِتةُ الأُسُسِ، تِلكَ الَّتي أنشأها اللهُ وبَناها.
11 وبِالإيمانِ أَيضًا، نالَتْ سارةُ القُدرةَ على الإِنجابِ، رَغمَ أنّها عاقِرٌ وبَلَغَت سِنَّ اليَأسِ. ذلِكَ لأَنَّها آمَنَت بأنّ اللهَ وَفيٌّ لوَعدِهِ. 12 فكانَ لها مِن النَّبيّ إبراهيمَ شَعبٌ في كَثرتِهِ كالنُّجومِ، أو كَرِمالِ الشّاطئِ لا يُعَدّونَ، كُلُّهُم مِن رَجُلٍ واحِدٍ قارَبَ المَوتَ بشَيخوختِهِ دونَ أن يُنجِبَ.
13 كُلُّ هَؤُلاءِ ماتوا راسِخينَ في إيمانِهِم، ماتوا قَبلَ أَن يَنالوا ما وَعَدَ اللهُ بِهِ، بل كانوا على يَقينٍ بِتَحقيقِ وُعودِهِ في المُستَقبَلِ البَعيدِ، وبذلِكَ فَرِحوا مُعتَرِفينَ أَنَّهُم غُرَباءُ عابِرونَ في هذِهِ الدُّنيا. 14 وكُلُّ الّذينَ يَقولونَ ذلِكَ إنّما يَكشِفونَ شَوقَهُم إلى وَطَنِهِمِ الحَقِّ. 15 ولَو كانوا يَتُوقونَ إلى البِلادِ الّتي هَجَروها، لأتيحَتْ لهُم فُرصةُ العَودةِ إليها. 16 ولكنَّهُم كانوا يَشتاقونَ إلى وَطَنٍ أَفضَلَ وأسمى، إنّهُ الوَطَنُ في النَّعيمِ. لذلِكَ كانَ اللهُ مَسرورًا حينَ يَدعونَهُ رَبَّهُم، فأعَدَّ لهُم حاضِرةً في النَّعيمِ.
17 بِالإيمانِ كانَ النَّبيُّ إبراهيمُ (عليه السّلام) يُقَدِّمُ إِسحَقَ ابنَهُ للهِ ذَبيحةً عِندَما امتَحَنَهُ. أجل، إبراهيمُ الَّذي حَصَلَ على وَعدِ اللهِ، كانَ يوشِكُ أن يَذبحَ ابنَهُ الفَريدَ، 18 رَغمَ أنَّ اللهَ قالَ لهُ: “يا إبراهيمُ، مِن إسحَقَ يَنحَدِرُ الوَرَثةُ وبِهِم أُحَقِّقُ وَعدي لكَ”. التوراة، سفر التكوين 21: 12. 19 وهو يَعلَمُ أنَّ اللهَ قادِرٌ على إحياءِ ابنِهِ مِنَ المَوتِ، وبطَريقةٍ رَمزيّةٍ، استَعادَ النَّبيُّ إبراهيمُ ابنَهُ مِنَ المَوتِ.
20 وبِالإيمانِ طَلَبَ النَّبيُّ إِسحَقُ لابنَيهِ يَعقوبَ والعِيصِ بَرَكاتٍ في المُستَقبَلِ مِن اللهِ.
21 وبِالإيمانِ، دَعا النَّبيُّ يَعقوبُ قَبلَ مَوتِهِ بالبَرَكاتِ لابنَيْ يوسُفَ، مُتَوِكِّئًا على عَصاهُ رافعًا صَلَواتَهُ إلى اللهِ.
22 وبِالإيمانِ، أعلَنَ النَّبيِّ يوسفَ أنَّ اللهَ سيُخرِجُ بَني يَعقوبَ مِن مِصرَ، فأوصاهُم قَبلَ مَوتِهِ أن يَنقُلوا مَعَهُم رُفاتَهُ.
23 وبِالإيمانِ، قامَ والِدا سَيِّدِنا موسى بإخفائِهِ مُدّةَ ثَلاثةِ أَشهُرٍ عنِ النّاسِ، لأنّهُما رأيا أنَّ ابنَهُما ذو بَهاءٍ عَظيمٍ، ولَم يَخشَيا أَمرَ فِرعَونِ مِصرَ الّذي حَكَمَ بِقَتلِ كُلِّ مَولودٍ ذَكَرٍ لِبَني يَعقوبَ.
24 وبِالإيمانِ رَفَضَ النَّبيُّ موسى حينَ بَلَغَ سِنَّ الرُّشدِ أَن يُدعى ابنًا لابنةِ فِرعَونَ، 25 واختارَ أن يَتَحَمَّلَ الذُّلَّ مَعَ جَماعةِ اللهِ، على أن يَتَمَتَّعَ بِلَذّةِ الإثمِ الّتي لا تَدومُ. 26 ورأى أَنَّ الإهانةَ الّتي يُواجِهُها مَعَهُم في سَبيلِ المَسيحِ المُنتَظَرِ، خَيرٌ مِن كُنوزِ مِصرَ وأبقَى، لأنّهُ يَعلَمُ أنَّ جَزاءَهُ مِنَ اللهِ جَزاءٌ أوفى. 27 وبإيمانِهِ بِاللهِ تَرَكَ أرضَ النِّيلِ وهو لا يَخشى غَضَبَ فِرعَونَ، بَل كانَ ثابِتَ الفُؤادِ، ذا عَزمٍ فأَبصَر مَن لا تَراهُ عَينٌ. 28 وبِالإيمانِ أَمَرَ بَني يَعقوبَ أن يَحتَفِلوا دائمًا بعِيدِ الفِصحِ، وأن يَرُشّوا دِماءَ الخِرفانِ المَذبوحَةِ على قَوائمِ الأبوابِ، ليَتَجاوزَ بذلِكَ مَلاكُ المَوتِ أبكارَ شَعبِهِ ولا يَقتُلُهُم.
29 وبالإيمانِ اجتازَ بَنو يَعقوبَ البَحرَ الأَحمَرَ كَأنَّهُم يَجتازونَ اليابِسَةَ، في حينِ رامَ المِصريّونَ ذلِكَ، فغَرِقوا!
30 وبِالإيمانِ طافَ بَنو يَعقوبَ حَولَ مَدينةِ أريحا سَبعةَ أَيّامٍ لأنّها لم تُفتَح لهُم، ثُمّ بِأَمرٍ مِنَ اللهِ انهارَت أَسوارُها ودَخَلوها.
31 وبِالإيمانِ رِحابُ العاهِرة لم تَهلِك في تِلكَ المَدينةِ معَ شَعبِها الّذينَ رَفَضوا طاعةَ اللهِ، لأَنَّها أَوَتْ اثنَينِ مِن الكَشّافةِ مِن جَيشِ بَني يَعقوبَ في دارِها عِندَ مُطارَدتِهما مِن قِبَلِ أعدائِهِم.
32 فهَل أَحتاجُ إلى المَزيدِ في استِعراضِ الأَمثِلةِ؟ لا يَتَّسِعُ المَجالُ كَي أُحَدِّثَكُم عَن إيمانِ جِدعونَ وإيمانِ باراقَ وَشَمشونَ، وفاتِحٍ والنَّبيِّ داوُدَ والنَّبيِّ صَموئيلَ وَغَيرِهِما مِنَ الأَنبياءِ الأقدَمينَ. 33 فبِالإيمانِ تَغَلَّبوا على مَمالِكِ أَعدائِهِم، وحَكَموا بِالعَدلِ، وحَصَلوا على ما وَعَدَهمُ اللهُ بِهِ. وبِالإيمانِ كَفَّ اللهُ مِن أجلِهِم أَنيابَ الأُسودِ، 34 وأَخمَدَ النّارَ المُشتَعِلةَ واللَّهيبَ، وحَفِظَهُم مِن أن يُقتلوا بالسَّيفِ، وبِالإيمانِ صارَ ضَعفُهُم استِبسالاً، فأَصبَحوا في الحُروبِ أبطالاً، يَكسِرونَ جُيوشَ الغُرَباءِ. 35 واستَرجَعَتْ بَعضُ النِّساءِ أَمواتَهُنَّ الَّذينَ بُعِثوا أحياءً، واحتَمَلَ آخَرونَ التَّعذيبَ، وفَضَّلوا المَوتَ على أن يَكفُروا لِكَي يُطلَقَ سَراحُهُم، طَمَعًا في خَيرِ جَزاءٍ مِن اللهِ يَومَ القيامةِ. 36 وغَيرَ هؤلاءِ مِن الَّذينَ تَحَمَّلوا الإِهانةَ والتَّعذيبَ وقُيودَ السُّجونِ. 37 ومِنهُم مَن حوكَمَ، أو قُتِلَ رَجمًا بالحِجارةِ، أَو نَشرًا بالمَناشيرِ، أَو بِالسَّيفِ، ومِنهُم مَن تَشَرَّدَ واتَّخَذَ مِن جُلودِ الغَنَمِ والماعِزِ لِباسًا، فكانوا مَحرومينَ، مُضَيَّقًا عليهِم، مَظلومينَ. 38 وقد طُرِدوا إلى الفَيافي والجِبالِ، واختَبؤوا في المَغاراتِ وكُهوفِ الأَرضِ، ولَم يَكُن هذا العالَمُ جَديرًا بِهِم!
39 لقد رَضِيَ اللهُ عن هؤلاءِ جَميعًا لإيمانِهِم، غَيرَ أنَّهم لَم يَروا تَحقيقَ ما كانوا بِهِ مَوعودينَ. 40 فقَد وَعَدَنا اللهُ بما هو أسمَى، فحَقَّقَ وُعودَهُ في زَمَنِنا مِن خِلالِ سَيِّدِنا عيسى المَسيحِ، وهكذا لَم يَصِل أسلافُنا الصّالِحونَ إلى الفَوزِ قَبلَنا، ولكنَّهُم في صُحبَتِنا سيَبلُغونَ الفَوزَ العَظيمَ.

*الفصل الحادي عشر:3 التوراة، سفر التكوين 1: 1.

الفصل الحادي عشر:18 التوراة، سفر التكوين 21: 12.