الفصل الثّالث
نِقوديموس
1‏-2 وذاتَ يومٍ، جاءَ رَجُلٌ مِن قادةِ اليَهودِ إلى سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) تَحتَ جُنحِ اللّيلِ، وقد كانَ يَنتمي إلى طائفةِ المُتشدِّدينَ، واسمُهُ نِقوديموسُ فقالَ لهُ: “أيُّها المُعلِّم، نَحنُ نَعلَمُ أنّ اللهَ أرسَلَكَ إلينا مُرشِدًا، إذ لَيسَ بمَقدورِ أحَدٍ القيامُ بتِلكَ المُعجِزاتِ الّتي تَقومُ بها إن لم يَكُن مؤيَّدًا مِن عِندِ اللهِ”. فأجابَهُ قائلاً: “الحقَّ الحقَّ أقولُ لكَ، إن لم يُعَد خَلقُ الإنسانِ مِن جَديدٍ، فلن يَكونَ بمَقدورِهِ رؤيةُ المَملكةِ الرَّبّانيّة”.* أثاب الله تعالى النبي داود (عليه السّلام) على طاعته ووعَدَه بأن يكون الحاكمُ على بني يعقوب من ذريّته دائمًا. وقد كانت نهاية مملكة داود وعقبه عند خراب القدس في العام 586 ق.م.، إلاّ أن بعض الناس كانوا يأملون أن تستعيد سلالة داود تلك المملكة. وقد بيّن الله عزّ وجلّ للنبي دانيال (عليه السّلام) بأنّه سيأتي يوم يتمّ فيه تأسيسُ تلك المملكة التي سوف تضمّ جميع البشر وتملأ الأرض. إلاّ أنّ اليهود كان لهم فهْمٌ قومي متعصّب لعبارة “مملكة الله”، لذلك وضّح السيد المسيح ضمن تعاليمه للناس أنّ اهتمام الله شامل جميع البشر على الأرض، لا قومًا منهم مخصوصين. فقالَ نِقوديموسُ بدَهشةٍ: “وكَيفَ يولِدُ الإنسانُ مِن جَديدٍ بَعدَ أن بَلغَ مِنَ العُمرِ عِتيًّا؟ أيَكونُ بمَقدورِهِ العَودةُ إلى بَطنِ أُمِّهِ ليُخلَقَ ثانيةً؟” فرَدَّ عليهِ عِيسَى (سلامُهُ علينا) بقَولِهِ: “أقولُ لكَ الحقَّ اليَقينَ، إن لم يُخلَقِ الإنسانُ مِنَ الماءِ ومِن رُوحِ اللهِ، فلن يَكون باستِطاعتِهِ الدُّخولُ إلى مَملكتِهِ الّتي وُعِدَ بها. كان على الوثنيين المقبلين على الدين اليهودي التطهّر بالماء وهذا بسبب رجس الوثنية. إذ كان المتطهِّر منهم يعتبر كأنّه خُلق من جديد. ولقد عنى، هنا، سيدنا عيسى (سلامُهُ علينا) ما قاله النبي يحيى (عليه السّلام) من أنّ على هؤلاء اليهود أن يتوبوا توبة نصوحًا ويعملوا الصالحات، وألاّ يظنوا أنّهم صالحون لمجرّد كونهم من ذريّة النبي إبراهيم (عليه السّلام)، ولا يتوهّموا أنّ التوبة لا تجب عليهم حتّى يكونوا من أمّة الله. من هنا، يمكن القول إنّ ما قصد إليه سيدنا عيسى (سلامُهُ علينا) هو الولادة الروحية عن طريق التوبة، لا الولادة الجسدية. فالإنسانُ يَملِكُ طَبيعتَهُ البَشَريّةَ بالوِلادةِ مِن أُمٍّ وأبٍ، ولكن لا يَكونُ باستِطاعتِهِ تَجديدُ رُوحِهِ إلاّ بنَفحةٍ مِن رُوحِ اللهِ. ولا تَستَغرِبُنَّ قولي هذا، فعلى أرواحِكُم أن تَتَجَدّدَ، فكَما أنّكَ عِندَ سَماعِكَ صَوتَ الرِّياحِ لا تَدرِي مِن أيِّ جِهة تَهُبُّ ولا أيّ جِهة تَذهَبُ، كذلِكَ لَيسَ باستَطاعتِكَ تَفسيرُ كَيفَ خُلقَ مِن جَديدٍ هؤلاء الّذينَ سَرَتْ داخلهُم نَفَحاتٌ مِن رُوحِ اللهِ”.
فقالَ نِقوديموسُ: “فكَيفَ يُمكِنُ لهذِهِ الأُمورِ أن تَحدُثَ للإنسانِ؟” 10 فأجابَهُ (سلامُهُ علينا): “أنتَ مِن بَينِ مُرشِدي بَني يَعقوبَ، فكَيفَ تَجهَلُ هذِهِ الأُمورَ؟ 11 إنّها لكَلِمةُ حقٍّ أقولُها لكَ: إنّنا نَتَكَلِّمُ بما عَلِمنا، ونَشهَدُ بما رأينا، ولكنّكُم تَرفُضونَ مِنّا البَلاغَ المُبينَ. 12 فإن كُنتُ قد حَدَّثتُكُم في أُمورِ الدُّنيا ولم تُعيروا كَلامي اهتمامًا، فكَيفَ تُصدِّقونَني إذا ما حَدَّثتُكُم في أُمور السّماء؟! 13 فما صَعِدَ أحَدٌ إلى السَّماءِ فيُخبِرَ عنها، ولكنّ سَيِّدَ البَشَر أتى مِن السَّماءِ، وهو الّذي يَستَطيعُ أن يُحَدِّثَكُم عنها.
14 فكَما رَفَعَ النّبيُّ موسى الحيّةَ في الصَّحراءِ على خَشَبةٍ، بعد أن أظهر اليهود تذمّرهم مِنَ النبي موسى (عليه السّلام) وربِّه في صحراء سيناء، أرسل الله عليهم أفاعي سامّةً عقابًا لهم على جحودهم. فذهبوا إلى موسى (عليه السّلام) يطلبون منه التخلّص من الأفاعي، وبعد طلب المغفرة من الله، أوحى إليه الله أن يصنع حيّة من النحاس، ثم يرفعَها على خشبة. فيأتي كلُّ مَنْ لدغته أفْعًى، فيشْخص ببصره إلى حيّة النحاس، فيَشْفَى. كذلِكَ لا بُدَّ أن يُرفَعَ سَيِّدُ البَشَرِ على خَشَبةٍ، 15 حتّى يَنالَ كُلُّ مَن يؤمِنُ بِهِ نَصيبَهُ في جَنّة الخُلدِ. 16 لقد أحَبَّ اللهُ كُلَّ البَشَر حتّى إنّهُ ضَحّى بالابنِ الرُّوحيِّ الفَريدِ لهُ تَعالى فِداءً لهُم، فلا خَوفَ على المؤمنينَ بِهِ مِن الهَلاكِ، لأنّ مَصيرَهُم دارُ الخُلدِ. 17 ولم يُرسِل اللهُ الابنَ الرُّوحيَّ لهُ تَعالى إلى النّاسِ إلاّ مُنقِذًا ولم يُرسِلهُ رَقيبًا مُعاقِبًا، 18 فمَن يؤمِنُ بِهِ لهُ النّجاةُ مِن عِقابِ اللهِ، أمّا مَن يَجحَدُ بِهِ فقد قَضى أمرُ الله بعِقابِهِ، لأنّهُ رَفَضَ الابنَ الرُّوحيَّ الفَريدَ لهُ تَعالى.
19 وهذا هو حُكمُ اللهِ: أشرَقَ نورُ اللهِ على الدُّنيا، إلاّ أنّ أهلَ الدُّنيا مَيّالونَ إلى الشَّيطانِ بأعمالِهِم، ومُعرِضونَ عن نورِ اللهِ. إنّهُم يَكرَهُونَ النُّورَ ويَكرَهونَ الخُروجَ مِن الظَّلامِ إليهِ، 20 وذلِكَ لأنّ أعمالَهُم آثمةٌ وهُم يَخشَونَ أن يَكشِفَها النّورُ فيَحُلَّ عليهِم غَضَبٌ مِن اللهِ. 21 وأمّا مَن يَسلُكُ سُبُلَ الحقِّ، فإنّهُ يَنجذِبُ إلى النّورِ تِلقائيًا، ويَعلَمُ الجَميعُ أنّهُ إنّما يَعيشُ بطاعةِ اللهِ”.
شهادة النّبيّ يحيى لعيسى (سلامُهُ علينا)
22 ثُمَّ تَوَجَّهَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) مَعَ أتباعِهِ إلى مِنطقةِ يَهوذا،§ وهي منطقة في وسط فلسطين تحيط بالقدس. وأقامَ هُناكَ، ثُمَّ أخَذَ يُطَهِّرُ النّاسَ بالماءِ، 23 كَما كانَ النَّبيُّ يَحيى (عليه السّلام) يَفعَلُ في مِنطقةِ عَينِ نُونٍ بالقُربِ مِن ساليمَ، لأنّ المياهَ هُناكَ وافرةٌ، فكانَ النّاسُ يَرتادونَ تِلكَ المِنطقةَ ليُطهِّرَهُم يَحيى (عليه السّلام)، 24 قَبلَ أن يُلقى في السِّجنِ. 25 وتَجادَلَ أتباعُ يَحيى (عليه السّلام) مَعَ أحَدِ اليَهودِ في شأنِ التَّطَهُّرِ بالماءِ، 26 فجاؤوا إلى النَّبيِّ يَحيى قائلينَ: “يا سَيِّدَنا، إنّ ذاكَ الّذي كانَ مَعَكَ على الضِّفّةِ الشّرقيَّةِ مِن نَهرِ الأُردُنّ وشَهِدتَ لهُ بأنّهُ المُنقِذُ المُنتَظَر، قد أصبَحَ مِثلكَ يُطَهِّرُ النّاسَ بالماءِ، وأخَذَ الجَميعُ يَتوجّهونَ إليهِ دونَكَ!” 27 فأجابَهُم يَحيى (عليه السّلام) بقولِهِ: “لَيسَ للإنسانِ أن يأخُذَ أيّ امتيازٍ إلاّ إذا وَهَبَهُ اللهُ إيّاهُ. 28 فإنّكُم لتَشهَدونَ لقولي الصَّريحِ إنّني لَستُ المَسيحَ المُنتَظَرَ، وإنّما أنا رَسولٌ يُمَهِّدُ لهُ الطَّريقَ، 29 فالعَروسُ للعَريسِ، والمؤمنُونَ بالمَسيحِ المُنتَظَرِ هم للمَسيحِ المُنتَظَرِ، وما أنا إلاّ في مَقامِ صَديقِ العَريسِ. والصَّديقُ يَفرَحُ بصَديقِهِ إذ يَراهُ ويَسمَعُهُ، وإنّي لأفرَحُ وأنا أشهَدُهُ يَجمَعُ أتباعَهُ حَولَهُ، 30 فلا بُدَّ أن يَلمَعَ نَجمُهُ ويَخبوَ نَجمي بانتهاءِ مُهِمَّتي”.
31 “إنّ عِيسَى قادمٌ مِن السَّماءِ وهو العَليُّ على النّاسِ أجمَعينَ. أمّا أنا فأرضيٌّ وإدراكي مَحدودٌ بالأرضِ، فالقادمُ مِن السّماءِ أرفعُ شأنًا مِن كُلِّ النّاسِ. 32 وهو يَشهَدُ بما رأى في السَّماءِ وسَمِعَ، ولكن ما أقلَّ الّذينَ يَتَقَبّلونَ رِسالتِهِ! 33 فأمّا الّذينَ يَتَقَبّلونَها فيَشهَدونَ بأنّ اللهَ حقٌّ. 34 ولقد أرسَلَ اللهُ المَسيحَ ليَتَحَدِّثَ بكلامِهِ تَعالى، فهو الّذي غَمَرَهُ اللهُ بفَيضٍ مِن رُوحِهِ تَعالى بلا حُدودٍ. 35 ولأنّ اللهَ الأبَ الرَّحيمَ يُحِبُّ الابنَ الرُّوحيَّ لهُ تَعالى، فقد جَعَلَ كُلَّ شيءٍ تَحتَ سُلطتِهِ. 36 ومَن يؤمِنْ بالمَسيحِ الابنِ الرُّوحيِّ للهِ يَحظَ بحياةِ الخُلودِ، أمّا مَن يَجحَدْ ذلِكَ، فلَيسَ لهُ في دارِ الخُلدِ مِن نَصيبٍ بل هو مَحطُّ غَضَبِ اللهِ وسُخطِهِ”.

*الفصل الثّالث:3 أثاب الله تعالى النبي داود (عليه السّلام) على طاعته ووعَدَه بأن يكون الحاكمُ على بني يعقوب من ذريّته دائمًا. وقد كانت نهاية مملكة داود وعقبه عند خراب القدس في العام 586 ق.م.، إلاّ أن بعض الناس كانوا يأملون أن تستعيد سلالة داود تلك المملكة. وقد بيّن الله عزّ وجلّ للنبي دانيال (عليه السّلام) بأنّه سيأتي يوم يتمّ فيه تأسيسُ تلك المملكة التي سوف تضمّ جميع البشر وتملأ الأرض. إلاّ أنّ اليهود كان لهم فهْمٌ قومي متعصّب لعبارة “مملكة الله”، لذلك وضّح السيد المسيح ضمن تعاليمه للناس أنّ اهتمام الله شامل جميع البشر على الأرض، لا قومًا منهم مخصوصين.

الفصل الثّالث:5 كان على الوثنيين المقبلين على الدين اليهودي التطهّر بالماء وهذا بسبب رجس الوثنية. إذ كان المتطهِّر منهم يعتبر كأنّه خُلق من جديد. ولقد عنى، هنا، سيدنا عيسى (سلامُهُ علينا) ما قاله النبي يحيى (عليه السّلام) من أنّ على هؤلاء اليهود أن يتوبوا توبة نصوحًا ويعملوا الصالحات، وألاّ يظنوا أنّهم صالحون لمجرّد كونهم من ذريّة النبي إبراهيم (عليه السّلام)، ولا يتوهّموا أنّ التوبة لا تجب عليهم حتّى يكونوا من أمّة الله. من هنا، يمكن القول إنّ ما قصد إليه سيدنا عيسى (سلامُهُ علينا) هو الولادة الروحية عن طريق التوبة، لا الولادة الجسدية.

الفصل الثّالث:14 بعد أن أظهر اليهود تذمّرهم مِنَ النبي موسى (عليه السّلام) وربِّه في صحراء سيناء، أرسل الله عليهم أفاعي سامّةً عقابًا لهم على جحودهم. فذهبوا إلى موسى (عليه السّلام) يطلبون منه التخلّص من الأفاعي، وبعد طلب المغفرة من الله، أوحى إليه الله أن يصنع حيّة من النحاس، ثم يرفعَها على خشبة. فيأتي كلُّ مَنْ لدغته أفْعًى، فيشْخص ببصره إلى حيّة النحاس، فيَشْفَى.

§الفصل الثّالث:22 وهي منطقة في وسط فلسطين تحيط بالقدس.