الفصل الخامس
عيسى (سلامُهُ علينا) يشفي كسيحًا
ومَضَى سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) بَعدَ ذلِكَ إلى القُدسِ الشَّريفِ، وصادَفَ ذَهابُهُ أحَدَ الأعيادِ اليَهوديّةِ. وهُناكَ، وعِندَ بوّابةٍ تُدعَى باب الغَنَمِ، كانَت هُناكَ بِركةُ ماءٍ يُطلِقونَ عليها اسمَ بَيتِ حِسدا تُحيطُ بها خَمسُ قاعاتٍ يَرقدُ فيها عَدَدٌ كَبيرٌ مِن المَرضى مِمَّن أُصيبُوا بالعَمى أو العَرَج أو الشَّلَل. وكانَ هؤلاء المَرضى يَنتظِرونَ على الدَّوامِ تَحَرُّكَ صَفحةِ الماءِ مِمّا يَعني في اعتِقادِهِم أنّ مَلاكًا نَزَلَ وحَرَّكَ مياهَ البِركةِ، وأوَّلُ النّازِلينَ عِندَ تَحَرُّكِ الماءِ، يُعافى مَهما كانَ مَرَضُهُ. وكانَ مِن بَينَ المَرضى الرّاقدينَ رَجُلٌ مُقعَدٌ مُنذُ ثَمانٍ وثَلاثينَ سَنة، رآهُ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) راقدًا هُناكَ، وعَلِمَ أنّهُ على تِلكَ الحالِ مُنذُ مُدّةٍ طَويلةٍ. فسألَهُ: “هل تُريدُ أن تُشفى؟” فأجابَهُ المُقعَدُ: “أنّى لي الشِّفاءُ يا سَيِّدي، ولا أحَدَ يُساعِدُني لأنزِلَ في الماءِ بَعدَ تَحَرُّكِهِ. فكُلمّا حاوَلتُ الوُصولَ إليهِ سَبَقَني آخَرُ” فقالَ لهُ عيسى (سلامُهُ علينا): “قُم واحمِل فِراشَكَ وامشِ”. وسُرعانَ ما تَعافى الرَّجُلُ المُقعَدُ، فاستَجابَ وحَمَلَ فِراشَهُ في الحالِ وسارَ على قَدمَيهِ. وقد جَرَت تِلكَ المُعجِزةُ يومَ السَّبتِ، 10 فما كانَ مِن قادةِ اليَهودِ إلاّ أن تَوَجَّهوا إلى الرَّجُلِ الّذي تَعافى وقالوا لهُ: “اليومَ يَومُ سَبتٍ، وهو يوم لا يَحِلُّ فيهِ العَمَلُ فلا يَحُقُّ لكَ حَملُ فِراشِكَ”. 11 فأجابَهُم: “ولكنّ مَن شَفاني أمَرَني بقولِهِ: احمِل فِراشَكَ وامشِ”. 12 فسألوهُ: “ومَن ذا الّذي يَجرُؤُ على أن يَطلُبَ مِنكَ ذلِكَ؟” 13 فسَكَتَ الرّجُلُ ولم يَستَطِع الإشارةَ إلى مَن طَلَبَ مِنهُ ذلِكَ، لأنّ سَيِّدَنا عيسى (سلامُهُ علينا) كانَ قد اختَفَى وَسَطَ الجُمهورِ المُحتَشِدِ.
14 ثُمَّ التَقى سَيّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) بذاكَ الرَّجلِ في الحَرَمِ الشَّريفِ، فقالَ لهُ: “احذَر، وقد شُفيتَ، مِن أن تَعودَ إلى خَطاياكَ وآثامِكَ فيُصيبَكَ أسوأُ مِمّا كانَ قد حَلَّ بِكَ”. 15 فعَلِمَ الرَّجُلُ حِينئذٍ أنّ مَن شَفاهُ هو عيسى (سلامُهُ علينا) فأخبَرَ قادةَ اليَهودِ. 16 فما كانَ مِنهُم إلاّ أن أخَذُوا يُضايقونَ عيسى (سلامُهُ علينا)، لأنّهُ تَجاوَزَ شَرائعَهُم بأن عَمِلَ في يَومِ السَّبت. 17 فقالَ لهُم (سلامُهُ علينا): “اللهُ أبي الصَّمَدُ دائمُ الحَرَكةِ والعَمَلِ في الكونِ وأنا كذلِكَ”. 18 وفي الحينِ عَقَدَ هؤلاء القادةُ النّيّةَ على قَتلِهِ، لا لأنّهُ خالَفَ شَريعتَهُم بشأنِ السَّبتِ فحَسب، بل لأنّهُ جَعَلَ مِن اللهِ وليَّهُ الحَميمَ، فساوَى بذلِكَ بَينَهُ وبَينَ اللهِ تَعالى.
سلطة حبيب الله (سلامُهُ علينا)
19 ثُمّ تَوَجَّهَ سَيِّدُنا عيسى بَعدَ ذلكَ إلى هؤلاء قائلاً: “الحقَّ أقولُ لكُم: لا يَبتَدِعُ الابنُ الرُّوحيُّ للهِ شَيئًا مِن تِلقاءِ نَفسِهِ، وإنّما مَثلُهُ كمَثَلِ الوَلَد الّذي يُحاكي أباهُ في عَمَلِهِ، فأنا أيضًا أُحاكي ما يَقومُ بِهِ اللهُ أبي الصَّمَدُ مِن أعمالٍ. 20 واللهُ الأبُ الرَّحيمُ يُحِبُّ الابنَ الرُّوحيَّ لهُ تَعالى، ويُريهِ كُلَّ ما يَقومُ بِهِ مِن أعمالٍ. وسيُظهِرُ للابنِ الرُّوحيِّ ما يَقومُ بِهِ مِن أعمالٍ تَكونُ أعظَمَ مِن شِفاءِ هذا الرَّجُلِ فتَندهِشونَ كَثيرًا، 21 وكَما أحيا اللهُ الأبُ الصَّمَدُ المَوتى، كذلِكَ يُحيِي الابنُ الرُّوحيُّ كُلَّ مَن يَشاء. 22 ولا يُحاسِبُ اللهُ الأبُ الرَّحمنُ النّاسَ مُباشرةً، بل وَكَّلَ الابنَ الرُّوحيَّ ليُحاسِبَهُم كُلَّهم، 23 حتّى يُكرِمَهُ الجَميعُ كَما يُكرِمونَ اللهَ الأبَ الرَّحيمَ. ومَن لا يُكرِمْ الابنَ الرُّوحيَّ، لا يُكرِم اللهَ الأبَ الرَّحمنَ الّذي أرسَلَهُ”.
24 الحقَّ أقولُ لكُم: مَن يَستجِب لرِسالتي مؤمنًا بمَن أرسَلَني فلَهُ الخُلودُ في الجَنَّةِ ولا يُعَذَّبُ بالنّارِ يَومَ الدِّينِ، لأنّهُ قد انتَقَلَ مِن الحياةِ الفانيةِ إلى الحَياةِ الباقيةِ الأبديّةِ. 25 والحقَّ أقولُ لكُم: سيَحينُ، بل قد حانَ فِعلاً، ذلِكَ الوَقتُ الّذي يُصغي فيهِ الضّالونَ الّذينَ هُم في دَربِ الهَلاكِ إلى صَوتِ الابنِ الرُّوحيِّ للهِ، فكُلُّ مَن يَسمَعُهُ يَحيا،* يشير سيدنا عيسى (سلامُهُ علينا) هنا إلى الأموات روحيا، أولئك الذين عند تقبّلهم رسالته ينالون الحياة الروحية. 26‏-27 وكَما أنّ للهِ الأبِ الصَّمَدِ قُدرةً على إعطاءِ الحَياةِ، كذلِكَ مَنَحَ الابنَ الرُّوحيَّ، سَيِّدَ البَشَرِ، قُدرةً على إحياءِ المَوتى، وسُلطةً على مُحاسبتِهِم. 28‏-29 ولا تَستَغرِبنّ ذلِكَ كُلَّهُ، فإنّهُ سيَحينُ وَقتٌ فيهِ يَسمَعُ مَن في القُبورِ صَوتَ سَيّدِ البَشرِ، فيُبعَثونَ أحياءً،‏ فمَن عَمِلَ الصّالِحاتِ نالَ حَياةَ الخُلودِ،‏ ومَن عَمِلَ السَّيّئَاتِ نالَ العِقابَ. يعني سيدنا المسيح (سلامُهُ علينا) هنا بعث الأموات عند قيام الساعة.
الشّهادة لعيسى (سلامُهُ علينا)
30 ثُمَّ تابَعَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) قائلاً: “لَيسَ ما أعمَلُهُ هو مِن تِلقاءِ نَفسِي،‏ ولكنّني أُحاسِبُ النّاسَ كَما أمَرَني رَبِّي. وَحِسابي عادِلٌ،‏ لأَنّني أُحاسِبُ لا كَما أُريدُ،‏ بَل كَما يُريدُ اللهُ الّذي أَرسَلَني. 31 وإنّي لو شَهِدتُ لِنَفسي لم تَكُن شَهادتي مَقبولةً، 32 إلاّ أنّ هُناكَ مَن يَشهَدُ لي، وإنّي لَعَلى يَقينٍ بصِحَّةِ شَهادتِهِ، 33 فلقد أرسَلتُم مَن يَسألُ النَّبيَّ يَحيى عَمّا جالَ في قُلوبِكم، ولقد شَهِدَ بالحقِّ. 34 وما أنا مِمّن يَركُنُ إلى شَهادةٍ بَشَريّةٍ تُخبِرُكُم مَن أنا، ولكنّني أُذَكِّرُكم بشَهادةِ النّبيِّ يَحيى حتّى تؤمنُوا بي فتَنجُونَ. 35 إنّهُ النَّبيُّ الّذي أشَعَّ عليكُم كالمِصباحِ المُنيرِ، واستمتِعتُم بنورِهِ إلى حين. 36 ولكنّ شَهادتي أعظَمُ مِن شَهادةِ يَحيى لأنّ شَهادتي شَهادةُ الأعمالِ الّتي كَلَّفَني بها اللهُ الأبُ الرَّحيمُ وهي الشَّهادةُ الحقُّ بأنّهُ تَعالى هو الّذي أرسَلَني إلى العالَمِ. 37 واللهُ الأبُ الرَّحيمُ يَشهَدُ لي أيضًا، وهو الّذي أخبَرَكُم عنّي بذاتِهِ العَليَّة الّتي لم تُدرِك ولَن تُدرِكَ عُيونُكم صُورتَها ولا آذانُكُم صَوتَها، 38 ولكنَّكُم لم تَهتمُّوا بما أَخبَرَكُم بِهِ وأغلَقتُم دُونَهُ قُلُوبَكم، إذ لم تُصَدِّقوا أنّي مُرسَلٌ مِن عِندِهِ. 39 إنّكُم تَقرَؤونَ الكُتُبَ السَّماويَّةَ بحِرصٍ إذ تَعتَقِدونَ بأنّ بها هِدايتَكُم إلى سُبُلِ الجِنانِ، ولكنّكُم لم تُعيرُوا المَواضِعَ الّتي تَشهَدُ لي اهتمامًا. 40 وإذ تَرفُضونَ الاهتداءَ إليَّ إنّما تَرفُضونَ نَصيبَكم في الجَنَّة.
41 ولَيسَ هَدَفي مَديحَ النّاسِ لي، 42 لأنّني على يَقينٍ بأنَّ قُلوبَكُم خاليةٌ مِن مَحبّةِ اللهِ، 43 وإنّي جِئتُ إليكُم باسمِ اللهِ أبي الصَّمَدِ فرَدَدتُمُوني، ولو جاءَ إليكُم أحَدٌ لا يُمَثِّلُ إلاّ نَفسَهُ لقَبِلتُموهُ. 44 فكَيفَ السَّبيلُ بكُم إلى الإيمانِ بي وأنتُم تَستعِيضُونَ عن مَدحِ اللهِ بمَديحِ بَعضِكُم بعضًا؟ 45 ولا تَعتقِدونَ أنَّني بهذا أشكُوكُم إلى اللهِ الأبِ الصَّمَدِ، ولكن مَن يَشكوكُم هو النَّبيُّ موسى مَحطُّ آمالِكم، 46 ولو أنّكُم صَدَّقتُم النَّبيَّ موسى، لَكُنتُم صَدَّقتُمُوني، فهو الّذي جاءَكُم بخَبَري، 47 فإن لم تُصَدِّقوهُ فكَيفَ إيّايَ تُصدِّقونَ؟”

*الفصل الخامس:25 يشير سيدنا عيسى (سلامُهُ علينا) هنا إلى الأموات روحيا، أولئك الذين عند تقبّلهم رسالته ينالون الحياة الروحية.

الفصل الخامس:28‏-29 يعني سيدنا المسيح (سلامُهُ علينا) هنا بعث الأموات عند قيام الساعة.