الفصل السّادس
عيسى (سلامُهُ علينا) وتعاليم السّبت
وفي يومٍ مِن أيّامِ السَّبتِ، بَينَما كانَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) مارًّا مَعَ أتباعِهِ في حُقولِ القَمحِ، نالَ مِن أتباعِهِ الجوعُ فأخَذوا يَقطِفونَ السَّنابِلَ ويَفرُكونَها بأيديهِم ويأكُلونَ،* وكما جاء في التوراة (تثنية 23: 25) فإنّه يحقّ للمارّة الجياع جنيُ حفنة من حبوب الحنطة بأيديهم وأكلُها. فزادَ ذلِكَ مِن إثارةِ حَفيظةِ بَعضِ المُتَشَدِّدينَ، وجَعَلَهُم يَقولونَ: “أحَصادٌ في يومِ السَّبتِ؟! إنّ هذا في شَريعةِ اللهِ حَرامٌ!” فقالَ لهُم عيسى (سلامُهُ علينا): “ألم تَقرَؤوا ما جاءَ في كِتابِ اللهِ عن النَّبيِّ داودَ وما فَعَلَهُ عِندَما استَبَدَّ الجوعُ بِهِ وبرِفاقِهِ؟! كَيفَ أقدَمَ على دُخولِ بَيتِ اللهِ ليأكُلَ مِن الخُبزِ المُقَدَّمِ لوَجهِ اللهِ ولِيُوَزِّعَهُ على رِجالِهِ، ذلِكَ الخُبزُ الّذي لا يَحِلُّ أكلُهُ إلاّ لرِجالِ الدِّينِ الأحبارِ. فإذا جازَ للنَّبيِّ داودَ القيامُ بهذا، فهو جائِزٌ لسَيِّدِ البَشَرِ الّذي أُعطِيَ سُلطانًا على قَوانينِ يومِ السَّبتِ”.
وفي يومِ سَبتٍ آخرَ، بَينَما كانَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) يُعَلِّمُ الحاضِرينَ في أحَدِ بُيوتِ العِبادةِ، وكانَ مِن بَينِ الحاضِرينَ رَجُلٌ مُصابٌ بِعَجزِ في يَدِهِ اليُمنى أدَّى إلى ضُمورِها، أخَذَ فُقَهاءُ التَّوراةِ والمُتَشَدِّدونَ يُراقِبونَ عيسى (سلامُهُ علينا) إن كانَ يَشفي في يومِ السَّبتِ الرَّجُلَ المَشلولَ، فتَكونَ لهُم بذلِكَ فُرصتُهُم لاتّهامِهِ بالخُروجِ عن تَعاليمِهِم بشأنِ هذا اليَومِ المُقَدَّسِ. ورأى سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) سِرَّهُم ونَجواهُم، فأقبَلَ على الرَّجُلِ وقالَ لهُ: “تَقَدَّمْ أيُّها الرَّجُلُ وَقِفْ وَسَطَ الجَميعِ”. فاستَجابَ الرَّجُلُ، بَينَما تَوَجَّهَ (سلامُهُ علينا) إلى الجَميعِ مُخاطِبًا: “إنّي لَأسألُكم: ماذا أُحِلَّ لكُم في السَّبتِ؟! هل أُحِلَّ لكُم القِيامُ بعَمَلِ الخَيرِ، أم الشَّرّ؟! هل أُحِلَّ لكُم إحياءُ النُّفوسِ أم قَتلُها؟!” 10 ثُمّ أجالَ نَظَرَهُ في الجَميعِ، وقالَ للرَّجُلِ المُصابِ: “مُدّ يَدَكَ”. فما كانَ مِنهُ إلاّ أن استَجابَ ومَدَّ يَدَهُ اليُمنى بَعدَ أن زالَ عَنها العَجزُ فأصبَحَت سَليمةً. 11 وغَضِبَ الفُقَهاءُ والمُتَشَدِّدونَ وقاموا يَتَشاوَرونَ فيما بَينَهُم ماذا يَفعَلونَ بعيسى (سلامُهُ علينا).
عيسى (سلامُهُ علينا) واصطفاؤه لحواريّيه
12 وفي أحَدِ الأيّامِ، وبَعدَ أن اختَلى (سلامُهُ علينا) في الجَبَلِ اللّيلَ كُلَّهُ يُناجي رَبَّهُ راكِعًا ساجِدًا لهُ، 13 استَدعَى في الصَّباحِ أتباعَهُ واصطَفَى مِن بَينِهِم اثنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، أَطلَقَ عليهِم لَقَبَ الحَواريِّينَ (أي مُرسَليهِ) وهم: 14 سَمْعانُ الّذي سَمّاهُ بُطرُسَ (يعني صخرًا) وأخوهُ أَنْدَراوسُ، ويَعقوبُ ويوحَنّا، وفيليبُ وابنُ تَلماي، 15 ومَتّى وتوما، ويَعقوبُ بن حَلْفي وسَمْعانُ المُلَقَّبُ بالوَطَنيِّ المُتَحَمِّسِ، كان المتحمّسون (أو الغيورون) جماعة من اليهود تحارب الرومان وتقاومهم. 16 ويَهوذا بِن يَعقوبَ ويَهوذا الإِسخَريوطيّ الّذي سيَخونُهُ في النّهايةِ.
عيسى (سلامُهُ علينا) ينشر تعاليمه ويشفي المرضى
17 ثُمّ نَزَلَ سَيِّدُنا عيسى وأتباعُهُ بَعدَ ذلِكَ مِن الجَبَلِ، ووَقَفَ في سَهلٍ مُنبَسَطٍ اجتَمِعَ فيهِ حَشدٌ غَفيرٌ مِن أتباعِهِ وغَيرِهِم مِن الّذينَ جاؤوا مِن بَيتِ المَقْدِس ومِن ساحِلِ صورَ وصَيدا ومِن جَميعِ أرجاءِ فِلَسطين 18 للاستِماعِ إليهِ ولشِفائِهِم مِن جَميعِ الأمراضِ. وكانَ بَينَ هؤلاءِ النّاسِ مَن بِهِم مَسٌّ شَيطانيّ سَبَّبَ شَقاءَهُم فخَلَّصَهُم مِن تِلكَ الشَّياطينِ. 19 فازدادَ اقتِرابُ الحَشدِ مِنهُ (سلامُهُ علينا) يَلمَسونَهُ فيَحصُلونَ على القوّةِ الّتي تَنبَعِثُ مِنهُ فيُشفَونَ.
كلامه (سلامُهُ علينا) عن السعادة الحقيقية
20 ووَقَفَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) في هذِهِ الحُشودِ يَرمُقُ أتباعَهُ المؤمنينَ ويُحَدِّثُهُم قائلاً:
 
“هَنيئًا لكُم يا أحبابي، أيُّها المُستَضعَفونَ، فقد خَصَّكُم اللهُ بِمَملكتِهِ الرَّبّانيّةِ!
21 هَنيئًا لكُم، فلئن جُعتُم اليومَ، فغَدًا بإذنِ اللهِ تَشبَعونَ!
هَنيئًا لكُم يا مَن تُعانونَ الظُّلمةَ الآن وتَبكونَ، فقد خَصَّكُم اللهُ بزَمَنٍ فيهِ تَفرحَونَ وتَسعَدونَ.
22 هَنيئًا لكُم جَميعًا عِندَما يأتيكُم النّاسُ فيُهينونَكُم ويَشتُمونَكُم لأنّكُم مِن أتباعِ سَيِّدِ البَشَرِ، يَحسَبونَ أنّ ذلِكَ مِنكُم كُفرٌ مُبينٌ.
23 لا عليكُم، يا أحبابي ألا فَافرَحوا في ذلِكَ الحينِ واستَبشِروا، فإنّ لَكُم عِندَ اللهِ الثَّوابَ العَظيمَ، لأنّكُم كُنتُم على الأذِيّةِ صابِرينَ، فأولئكَ آذى آباؤهُم الأوّلونَ الأنبياءَ والصِّدّيقينَ.
 
24 أمّا أنتُم يا عَبيدَ المالِ، فالوَيلُ الوَيلُ لكُم، إنّما نِلتُم في هذِهِ الدُّنيا حَظَّكُم، وما لكُم بَعدَها مِن نَصيبٍ!
25 الوَيلُ لكُم، أيُّها المُتخَمونَ في هذِهِ الدُّنيا، فسيأتي عليكُم زَمَنٌ فيهِ تَجوعونَ.
والوَيلُ لكُم أيُّها الضّاحِكونَ على النّاسِ، يا مَن لا تُبالونَ بمَن حَولَكُم، اذ سيأتي عليكُم زَمَنٌ فيهِ تَبكونَ في الجَحيمِ.
26 والوَيلُ لكُم يا مَن تَسعَونَ إلى مَديحِ النّاسِ، فكذلِكَ فَعَلَ آباءُ مادِحيكُم قَديمًا بمُدّعِيي النَّبوّةِ الدَّجّالينَ.
أحبّوا أعداءكم
27 وتابَعَ يَقولُ: والآنَ أقولُ لكُم يا مَن أرَدتُم طاعةَ اللهِ، أحِبّوا أعداءَكُم، وأحسِنوا إلى مُبغِضيكُم! 28 اسألوا بَرَكاتِ اللهِ لكُلِّ مَن يَطلُبُ عليكُم اللَّعنات، وادعُوا بالخَيرِ لمَن أساءَ إليكُم. 29 ومَن ضَرَبَكَ على خَدِّكَ الأيَمَن، فأدِرْ لهُ الأيَسَرَ أيضًا، ومَن اغتَصَبَ مِنكَ عَباءَتَكَ، فأعطِهِ جِلبابَكَ أيضًا. 30 أعطِ مِمّا لكَ لكُلِّ مَن سألَكَ. ومَن أخَذَ ما هو لَكَ، فلا تُطالِبْهُ بِهِ. 31 عامِلوا النّاسَ كَما تُحِبّونَ أن تُعامَلوا. 32 إذ أيُّ فَضلٍ لكُم إن أنتُم أحبَبتُم مَن يُحِبّونَكُم ولم تَتَجاوَزوهُم إلى غَيرِهِم؟ فالضّالّونَ يُحِبّونَ أيضًا مَن يُحِبّونَهُم! 33 وإن لم تُحسِنوا إلاّ لِمَن أحسَنَ إليكُم، فأيُّ فَضلٍ لكُم في هذا؟! إذ كذلِكَ يَفعَلُ الضّالونَ! 34 وإن أقرَضتُم فَقَط مَن يَقدِرونَ على سَدادِ كُلِّ الدَيْنِ، فأيُّ فَضلٍ لكُم في ذلِكَ؟! وبذلِكَ لن يَكونَ عَمَلُكُم ذاكَ أفضَلَ مِن عَمَلِ المُفسِدينَ الضّالينَ الّذينَ يُقرِضونَ أمثالَهُم مِن النّاسِ وَيَتَوَقَّعونَ السَّدادَ بالكامِلِ! 35 لِذا يا أحبابي أَحِبّوا أعداءَكُم وأحسِنوا إليهِم وأقرِضُوهُم دونَ أن تَنتَظِروا سَدادًا، ولْيَكُنْ ذلِكَ كُلُّهُ لوَجهِ اللهِ الكَريمِ، فتَنالوا بذلِكَ مِن رَبِّكُم الثَّوابَ العَظيمَ وتَكونوا مِن أوليائِهِ تَعالى المُخلِصينَ. لأنّ اللهَ كذلِكَ يُنعِمُ على مُنكري فَضلِهِ وعلى الأشرارِ. 36 فارحَموا مَن في الأرضِ، مِثلَما يَرحَمُ اللهُ أبوكُم الرَّحمَنُ مَن فيها.
لا تكونوا أنتم من يدين الخلق
37 وأردَفَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) قائلاً: “وإن أنتُم حاسَبتُم النّاسَ حاسبَكُم رَبُّكُم، وإن أنتُم أدَنتُموهُم أدانَكُم اللهُ. سامِحوا النّاسَ كَي يُسامِحَكُم اللهُ. 38 وأعطوا بِسَخاءٍ، يَغمُرْكُم اللهُ بِنِعَمِهِ، ويُعَوِّضْ عليكُم بِكَيلٍ فائضٍ يَملأُ أحضانَكُم، يقارن سيّدنا المسيح هنا ثواب الله للطائعين بطريقة تجّار القمح في ملء مكيال الباعة تمامًا إلى حدّ أن يصبح فائضًا. فكَما تَكيلونَ للنّاسِ، يَكيلُ اللهُ لكُم”.
39 وضَرَبَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) لهُم مَثَلاً قائلاً: “كَيفَ للأعمى أن يَقودَ أعمى مِثلَهُ؟! ألا يَسقُطُ كِلاهُما في الحُفَر؟ 40 لن يَكونَ التِّلميذُ أعلى مَرتَبةً مِن شَيخِهِ، بل يَكونُ التِّلميذُ قد أكمَلَ تَدريبَهُ عِندَ سُلوكِهِ مَسلَكَ شَيخِهِ”.
41 “لِماذا تُبصِرُ القَشّةَ في عَينِ أخيكَ، ولا تَرى الخَشَبةَ التّي في عَينِكَ؟! 42 وكَيفَ تَتَجَرّأُ على القَولِ:”يا أخي دَعني أُخرِج مِن عَينِكَ القَشّة،” بَينَما لا تُلاحِظُ الخَشَبةَ الّتي في عَينِكَ؟ لا تَكُنْ مُنافِقًا. تَخَلَّص مِن الخَشَبةَ الّتي في عَينِكَ أوّلاً لعَلَّكَ تُبصِرُ جَيّدًا فتُخرِجَ القَشّةَ مِن عَينِ أخيكَ!”
الشجرة الطيّبة وثمارها والخبيثة وثمارها
43 ثُمّ ضَرَبَ لهُم مَثَلاً آخَرَ فقالَ (سلامُهُ علينا): “الشَّجَرةُ الطَّيّبةُ لا تُثمِرُ إلاّ ثَمَرًا طَيّبًا، والخَبيثةُ لا تُثمِرُ إلاّ الخَبيثَ، 44 فكُلُّ شَجَرةٍ تَدُلُّ عليها ثِمارُها، فنَباتُ الشَّوكِ لا يَطرَحُ تينًا، والعُلّيقُ لا يُثمِرُ عِنَبًا! 45 والبَشَرُ كذلِكَ، فالطَّيّبُ مِن الأعمالِ والأقوالِ يَدُلُّ على طِيبةِ سَرائرِ أصحابِها، والخَبيثُ مِنها يَدُلُّ على خُبثِ سَرائرِ أصحابِها. إذ لا يَبوحُ اللِّسانُ إلاّ بما وَقَرَ في القَلبِ”.
الأساس المتين
46 ثُمّ قالَ مُتَسائلاً: “كَيفَ تُنادونَني “سَيِّدَنا، سَيِّدَنا” ولا تَعمَلونَ بما أقولُ؟ 47 إنّ مَن يأتي إليّ مُصغيًا لأقوالي، عامِلاً بها، مَثَلُهُ كمَثَلِ 48 مَن أرادَ أن يَبني بَيتًا فعَمَّقَ في الأرضِ أساسَهُ ووَضَعَ على الصَّخرِ قواعِدَهُ، فإذا أتى السَّيلُ جارِفًا صَمَدَ البَيتُ لأنّ أساسَهُ راسِخٌ ولا يَتَزَحزِحُ. 49 وأمّا مَن يُصغي لأقوالي دونَ أن يَعمَلَ بها فهو كَمَن يَبني بَيتَهُ على تُربةٍ رَمليّةٍ دونَ أساسٍ. فإذا أقبَلَ عليهِ السَّيلُ، اِنهارَ وتَحَطَّمَ”.

*الفصل السّادس:1 وكما جاء في التوراة (تثنية 23: 25) فإنّه يحقّ للمارّة الجياع جنيُ حفنة من حبوب الحنطة بأيديهم وأكلُها.

الفصل السّادس:15 كان المتحمّسون (أو الغيورون) جماعة من اليهود تحارب الرومان وتقاومهم.

الفصل السّادس:38 يقارن سيّدنا المسيح هنا ثواب الله للطائعين بطريقة تجّار القمح في ملء مكيال الباعة تمامًا إلى حدّ أن يصبح فائضًا.