الفصل السّادس عشر
مَثَل الوكيل المحتال
وواصَلَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) ضَربَ الأمثالِ لأصحابِهِ فقالَ: “وَكَّلَ غَنيٌ رَجُلاً على مالِهِ، فعَلِمَ أنّ هذا الوَكيلَ كانَ يُسرِفُ في تَبذيرِ المالِ، فما كانَ مِنهُ إلاّ أن استَدَعاهُ وقالَ لهُ: “ما هذا الّذي أسمَعُهُ عَنكَ؟ أطلِعني على حِساباتِكَ فأنتَ لَستَ أهلاً لأن تَكونَ وَكيلي بَعدَ الآنَ”. فحَدَّثَ الوَكيلُ نَفسَهُ قائلاً: “ما عَسايَ أن أفعَلَ بَعدَ أن يَنزِعَ سَيِّدي مِنّي الوكالةَ؟ فلا طاقةَ لي على فِلاحةِ الأرضِ، وإنّي لَأستَحي أن أتَسَوَّلَ”. ثُمّ فَكَّرَ وقَدَّرَ وقالَ: “ها قد اهتَدَيتُ إلى حَلٍّ لكي أجعَلَ النّاسَ راضينَ عنّي ومُرَحِّبينَ بي في بُيوتِهِم عِندَما أترُكُ سَيِّدي!” وقامَ باستِدعاءِ كُلِّ مَن كانَ مَدينًا لسَيّدِهِ شَخصًا شَخصًا، فقالَ للأوّلِ: “كَم يَبلُغُ دَينُكَ لسَيِّدي؟” فقالَ لهُ: “مِئةُ بَرميلٍ مِن زَيتِ الزَّيتونِ”. فقالَ لهُ الوَكيلُ: “إليكَ بصَكِّكَ وسَجِّل عليهِ خَمسينَ”. وقالَ لآخَر: “وأنتَ كَم يَبلُغُ دَينُكَ؟!” فقالَ: “مِئةُ كِيسٍ مِن القَمحِ”. وقالَ لهُ الوَكيلُ أيضًا: “إليكَ بصَكِّكَ وسَجِّل عليهِ ثَمانينَ”. وعِندَما عَلِمَ السَّيّدُ بما جَرَى، تَعَجَّبَ مِن ذَكاءِ وَكيلِهِ في رِعايةِ مَصالحِهِ الذّاتيّة. وأقولُ لكُم إنّ أهلَ الدُّنيا يا أحبابي أكثَرُ ذَكاءً في رِعايةِ مَصالحِهِم مِن أهلِ الهِدايةِ”.
المال والأمانة
ثُمّ أضافَ (سلامُهُ علينا): “وبِناءً على ذلِكَ أقولُ لكُم:* لقد ارتبط قول الشّعر، في التصوّر التقليدي، بمصدر غيبيّ عادة ما يقترن بالشّياطين والجنون والعفاريت. وعلى هذا الأساس اُتّهم بعض الأنبياء مثل محمّد بأنّ القرآن الذي قاله شعرٌ أملته عليه الشّياطين. وقد نفي النبيّ محمّد ذلك، وأكّد أنّ القرآن ليس بالشّعر ولا بالنّثر وإنّما هو وحي من الله. ولا نرى أنّ نطق السيّد المسيح بالشّعر يتنزّل ضمن هذه الرّؤية التّقليديّة التي تجاوزتها الدّراساتُ النّقديّة الحديثةُ للشّعر، والتي تنزّله منزلةَ غيره من أجناس الكتابة مثل النّثر والمسرح، ولا تُسند إليه أيّة خلفيّة غيْبيّة ذات دلالة أخلاقيّة سلبيّة. وإنّما هو، على عكس ذلك، ومن المنظور الحديث، علامة على الحكمة وناطق بالخبرة وكاشف عن عمق تمثّل المتكلّم للكون والوجود وأسرار الحياة.
 
جُودوا بمالٍ على الفُقَراء
لكي تُقبَلوا في ديارِ الخُلودْ
10 فمَن في القَليلِ يَكُنْ مُخلِصًا
يَكُنْ في الكَثيرِ وفيّ العُهودْ
ومَن في القَليلِ يَكُن خائنًا
يَكُن في الكَثيرِ كَثيرَ الجُحودْ
11 فإن كُنتَ في ذي الحَياة خؤونًا
فمَن يأتَمِنْكَ بحقٍّ يَسودْ
12 وإن لم تَكُن في الّذي سَيَبيدُ
أمينًا فكَيفَ بما لا يَبيدْ
13 ولمْ نَرَ عَبدًا لهُ سَيِّدانِ
فإمّا مُحِبٌّ لِذا أوْ حَقودْ
فلَيسَ بمَقدورِكُم أن تَكونوا
لمَولاي والمالِ نَفسَ العَبيدْ”
عيسى (سلامُهُ علينا) ينذر المتشدّدين
14 وسَمِعَ المُتَشَدِّدونَ كَلامَهُ (سلامُهُ علينا) فسَخِروا مِنهُ لأنّهُم كانوا يُحِبّونَ المالَ. ظنّ هؤلاء المتشدّدون أنّ الله قد أعطاهم ثروتهم بسبب التزامهم الشديد بأحكام التوراة. وقد استنكر سيّدنا عيسى هنا ظنّهم. وفي الآياتين 15 و16 ينتقد تقاليدهم الخارجية ويقول إنّها مرفوضة عند الله، وهي في الحقيقة محاولة لدخول المملكة الربانية عنوةً. وفي الآيتين 17 و18 يكشف كيف أنّهم يخالفون وصايا التوراة في سبيل الحفاظ على تقاليدهم، كما في حال الطلاق. وفي الآيات 19‏-31 يبيّن لهم أنّ جمع الأموال ليس بالضرورة دليلا على مرضاة الله. 15 فقالَ لهم: “تَتَظاهِرونَ بالصَّلاحِ أمامَ النّاسِ، واللهُ بباطِنِكُم عَليمُ. وما أكثَر الأشياء الّتي يُقَدِّرُها النّاسُ وهي عِندَ اللهِ رِجْسٌ!
16 ولقد أعلَنَ النّاسُ شَريعةَ التَّوراةِ وصُحُفَ الأنبياءِ حتّى مَجيءِ النّبيِّ يَحيى. والآنَ، آنَ الأوانُ لإعلانِ البَيانِ بظُهورِ مَملَكةِ اللهِ، وما أكثَرَ الرّاغبينَ في أن يَكونوا مِن داخليها عُنوَةً بغَيرِ طاعةِ اللهِ! 17 ألا وإنّ زَوالَ السّماواتِ والأرضِ أهوَنُ عِندَ اللهِ مِن زَوالِ نُقطةٍ في حَرفٍ مِن التَّوراةِ أو مِن كُتُبِ الأنبياءِ! لذلِكَ، 18 فإنّ كُلَّ مَن طَلَّقَ امرأتَهُ وتَزَوَّجَ بأُخرى خانَ العَهَدَ الَّذي كانَ بَينَهُما، وكُلَّ مَن تَزَوَّجَ بمُطَلَّقةٍ فقد تَعَدّى على العَهدِ الّذي كانَ لها مَعَ زَوجِها الأوّلِ”. أباح بعض علماء اليهود الطلاق لأسباب واهية، لكن سيّدنا المسيح أقرّ بأنّ عقد الزواج غير قابل للفسخ ويمتدّ طول العمر. وبناءً على ذلك، فمن حاول فسخ عقد زواجه وتزوّج امرأة أخرى يكون قد ارتكب معصية الزنى.
الغنيُّ والمسكين
19 ثُمّ أضافَ (سلامُهُ علينا) فقالَ: “كانَ في ما مَضى غَنيٌ يَتَنَعَّمُ بارتِداءِ أفخَرِ الثّيابِ الأُرجُوانيّةِ الكتّانيّةِ النّاعِمةِ، ويَجلِسُ كُلَّ يومٍ على المَوائدِ الفاخرةِ. 20 وكانَ هُناك شَحّاذٌ مَسكينٌ اسمُهُ عُزَيرٌ قد غَطَّت القُروحُ جَسَدَهُ، وكانَ يَجلِسُ عِندَ بابِ الغَنيِّ مُتَضَوِّرًا جُوعًا 21 عَلَّهُ يَحظَى بفُتاتِ مَوائدِ الغَنيِّ، ومِمّا زادَ مِن عَذابِهِ أنّ الكِلابَ كانَت تُقبِلُ عليهِ لاحِسةً قُروحَهُ. 22 وماتَ عُزَيرٌ، فحَمَلَتْهُ الملائكةُ فكانَ مَقامُهُ إلى جانبِ النّبيِّ إبراهيمَ.§ الصورة هنا تبيّن أنّ عزيرا مُنح مقامًا مشرّفًا فكان مجلسه إلى جانب النبي إبراهيم. ثُمّ ماتَ الغَنيُّ. وبَعدَ دَفنِهِ، 23 وبَينَما كانَ يَتَعَذّبُ في قَبرِهِ، رَفَعَ بَصَرَهُ إلى الأعلى فرأى مِن بَعيدٍ عُزيرًا إلى جانبِ النّبيِّ إبراهيمَ. 24 فأخَذَ يَصيحُ: “يا أبَتِ إبراهيمُ، ارحَمني وأرسِلْ إليّ عُزيرًا عَلَّهُ يُبَرِّدُ لِساني بإصبَعِهِ يُبَلِّلُهُ بالماءِ، فإنّي مُعَذَّبٌ في هذا اللَّهيبِ”.* لم يقصد السيّد المسيح بكلمة “اللّهيب” أنّ الغنيّ كان في جهنّم، وإنّما كان يمرّ بما يُسمّى “عذاب القبر” وهو عذاب يسبق العذاب الأبديّ الذي سيناله الأشرار بعد الحكم عليهم في يوم الدين. أمّا الصالحون فيكونون في حالة من الراحة والسعادة خلال هذه الفترة في انتظار خير الجزاء من ربّهم يوم الدين. 25 فأجابَهُ النَّبيُّ إبراهيمُ: “يا بُنَيّ، تَذَكَّر أنّكَ أخَذتَ نَصيبَكَ مِن الخَيراتِ في دُنياكَ، وأمّا عُزَيرٌ فقد نالَ في دُنياهُ نَصيبَهُ مِن البؤسِ، وها قد عَوَّضَهُ اللهُ عن بؤسِهِ ذاكَ نَعيمًا هُنا، وأنتَ تَلقى ما تَلقاهُ عِندَكَ مِن عَذابٍ أليمٍ. 26 ولقد ثَبَّتَ اللهُ بَينَنا وبَينَكُم هُوةً لا قَرارَ لها، وإنّنا عن عُبورِها لعاجِزونَ، وما أنتُم إلينا بقادِرينَ على العُبور”. 27 فقالَ الغَنيُّ: “فهَلاّ تُرسِلُهُ إذن، يا أبَتِ إبراهيمُ الحَليمُ، إلى بَيتِ والدي، 28 حتّى يُنذِرَ إخوتي الخَمسةَ ليَحذَروا هذا العَذابَ الأليمَ، فلا يَكونُ مَصيرُهُم كمَصيري!” 29 فأجابَهُ النّبيُّ إبراهيمُ: “وكَيفَ لا يَدرونَ، وبَينَ أيديهِم التَّوراةُ وصُحُفُ الأنبياءِ فيها يَنظُرونَ؟ فليَعمَلوا بما جاءَ فيها!” 30 فقالَ الغَنيُّ: “يا أبَتِ إبراهيمُ، إنّ هذا لا يَكفي! ولكن إذا بُعِثَ أحَدُ الأمواتِ فأخبَرَهُم بذلِكَ المَصيرِ، فسيَتوبونَ!” 31 فأجابَهُ النَّبيُّ إبراهيمُ قائلاً: “إن كانوا بما جاءَ في التَّوراةِ وفي كُتُبِ الأنبياءِ لا يَعمَلونَ، فما هُم مِن بَعثِ الأمواتِ بمُتّعِظينَ”.

*الفصل السّادس عشر:9 لقد ارتبط قول الشّعر، في التصوّر التقليدي، بمصدر غيبيّ عادة ما يقترن بالشّياطين والجنون والعفاريت. وعلى هذا الأساس اُتّهم بعض الأنبياء مثل محمّد بأنّ القرآن الذي قاله شعرٌ أملته عليه الشّياطين. وقد نفي النبيّ محمّد ذلك، وأكّد أنّ القرآن ليس بالشّعر ولا بالنّثر وإنّما هو وحي من الله. ولا نرى أنّ نطق السيّد المسيح بالشّعر يتنزّل ضمن هذه الرّؤية التّقليديّة التي تجاوزتها الدّراساتُ النّقديّة الحديثةُ للشّعر، والتي تنزّله منزلةَ غيره من أجناس الكتابة مثل النّثر والمسرح، ولا تُسند إليه أيّة خلفيّة غيْبيّة ذات دلالة أخلاقيّة سلبيّة. وإنّما هو، على عكس ذلك، ومن المنظور الحديث، علامة على الحكمة وناطق بالخبرة وكاشف عن عمق تمثّل المتكلّم للكون والوجود وأسرار الحياة.

الفصل السّادس عشر:14 ظنّ هؤلاء المتشدّدون أنّ الله قد أعطاهم ثروتهم بسبب التزامهم الشديد بأحكام التوراة. وقد استنكر سيّدنا عيسى هنا ظنّهم. وفي الآياتين 15 و16 ينتقد تقاليدهم الخارجية ويقول إنّها مرفوضة عند الله، وهي في الحقيقة محاولة لدخول المملكة الربانية عنوةً. وفي الآيتين 17 و18 يكشف كيف أنّهم يخالفون وصايا التوراة في سبيل الحفاظ على تقاليدهم، كما في حال الطلاق. وفي الآيات 19‏-31 يبيّن لهم أنّ جمع الأموال ليس بالضرورة دليلا على مرضاة الله.

الفصل السّادس عشر:18 أباح بعض علماء اليهود الطلاق لأسباب واهية، لكن سيّدنا المسيح أقرّ بأنّ عقد الزواج غير قابل للفسخ ويمتدّ طول العمر. وبناءً على ذلك، فمن حاول فسخ عقد زواجه وتزوّج امرأة أخرى يكون قد ارتكب معصية الزنى.

§الفصل السّادس عشر:22 الصورة هنا تبيّن أنّ عزيرا مُنح مقامًا مشرّفًا فكان مجلسه إلى جانب النبي إبراهيم.

*الفصل السّادس عشر:24 لم يقصد السيّد المسيح بكلمة “اللّهيب” أنّ الغنيّ كان في جهنّم، وإنّما كان يمرّ بما يُسمّى “عذاب القبر” وهو عذاب يسبق العذاب الأبديّ الذي سيناله الأشرار بعد الحكم عليهم في يوم الدين. أمّا الصالحون فيكونون في حالة من الراحة والسعادة خلال هذه الفترة في انتظار خير الجزاء من ربّهم يوم الدين.