الفصل العشرون
مَن منح عيسى (سلامُهُ علينا) السّلطان؟
وبَينَما كانَ (سلامُهُ علينا) يَومًا يُعَلِّمُ النّاسَ في الحَرَمِ الشَّريفِ مُعلِنًا البُشرى بقيامِ مَملَكةِ اللهِ المَوعودةِ، جاءَهُ كِبارُ الأحبارِ وبَعضٌ مِن عُلَماءِ التَّوراةِ ومَشايخِ الشَّعبِ مُتَسائلينَ: “مَن مَنَحَكَ السُّلطانَ حتّى تَفعَلَ ما فَعَلتَ في الحَرَمِ الشَّريفِ؟! ومَن أذِنَ لكَ بذلِكَ؟” فأجابَهُم (سلامُهُ علينا) قائلاً: “أُريدُ، أنا أيضًا، أن أُوَجِّهَ إليكُم سؤالاً. فأَجيبوني: مَن مَنَحَ يَحيى حَقَّ التَّطهيرِ بالماءِ؟ أهو اللهُ، أم النّاسُ؟!” فتَشاوَروا فيما بَينَهُم قائلينَ: “لو أجبْنا بأنّهُ اللهُ لقالَ لنا: ولِماذا لم تُؤمنوا بِهِ؟! ولو أجبنا “النّاسُ”، فسيَقومُ الحاضِرونَ جَميعًا بِرَجمِنا، فَهُم يَنسِبونَ النُّبُوّةَ إلى يَحيى”. فكانَت إجابتُهُم: “لا نَدري”. فقالَ لهُم عيسى (سلامُهُ علينا): “أنا أيضًا لن أجيبَكُم عَمَّن أذِنَ لي في تَطهيرِ بَيتِ اللهِ!”
مَثَل الفلاّحين الأشرار
ثُمّ أخَذَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) يُخاطِبُ مَن كانوا حَولَهُ: “قامَ صاحِبُ بُستانٍ بغَرسِ كُرومٍ فيهِ، ثُمّ أجَّرَهُ إلى جَماعةٍ مِن الفَلاّحينَ وسافَرَ إلى بَلَدٍ آخَرَ لمُدَّةٍ طَويلةٍ. 10 وفي مَوسمِ القِطافِ، أرسَلَ أحَدَ عَبيدِهِ ليأتيَ لهُ بِنَصيبِهِ مِن كُرومِ أرضِهِ حَسَبَ اتّفاقِهِ مَعَهُم. ولكنّ الفَلاّحينَ أشبَعوا العَبدَ ضَربًا وأعادوهُ إلى سَيِّدِه خاليَ الوِفاضِ. 11 فأرسَلَ رَبُّ الكُرومِ عَبدًا آخَرَ فضَرَبوهُ أيضًا وأهانوهُ فعادَ مِثلَ الأوَّلِ بلا مَحصولٍ. 12 وكذا فَعَلوا بالعَبدِ الثّالثِ فعادَ كسابِقَيْهِ مُثخَنًا بالجُروحِ خاليَ اليَدَينِ. 13 حِينئذٍ قالَ صاحِبُ البُستانِ: “تُرى، ماذا أفعَلُ؟! لا بُدَّ لي مِن إرسالِ وَلَدي الحَبيبِ لَعَلَّهُم يَعرِفونَهُ فيَهابُوهُ ويَرجِعوا إلى ميثاقِنا الأوّلِ”. 14 ولكنّ الفَلاّحينَ عِندَما رَأوهُ، أخَذوا يَتَناجَونَ فيما بَينَهُم قائلينَ: “هذا هو وارِثُ البُستانِ! لِنَقتُلْهُ فيَؤولَ المِيراثُ إلينا!” 15 فرَمَوهُ خارجَ البُستانِ وقَتَلوهُ. فكَيفَ سيَكونُ انتِقامُ صاحِبِ البُستانِ مِن الخَوَنةِ المُجرِمينَ؟! 16 سأقولُ لكُم: لا بُدَّ لهُ مِن أن يَعودَ إليهِم ويَقتُلَهُم ثُمّ يُسَلِّمُ بُستانَهُ إلى غَيرِهِم”. فقالَ الحاضِرونَ: “لا سَمَحَ اللهُ!” 17 إلاّ أنّهُ (سلامُهُ علينا) نَظَرَ إليهِم مَليًّا وقالَ: “إذَن، فما مَعنى ما جاءَ في الزَّبورِ: “الحَجَرُ الّذي رَفَضَهُ البُناةُ صارَ حَجَرَ الأساسِ في بَيتِ اللهِ”؟ 18 وأقولُ لكُم مَهما حاوَلتُم دَفعَ هذا الحَجَرِ ورَدَّهُ فلن يَكونَ لعَمَلِكُم هذا أيُّ جَدوَى: فإذا حاوَلتُم رَدَّهُ حَطَّمَكُم، وإذا وَقَعَ عليكُم هَشَّمَكُم!”* أشار السيد المسيح بالعبارة حجر الزاوية إلى نفسه. 19 وحاوَلَ العُلَماءُ والأحبارُ في تِلكَ السّاعةِ القَبضَ على عيسى (سلامُهُ علينا) إذ أدرَكوا أنّهُ إنّما كانَ يَعنيهِم بتِلكَ القِصّةِ، ولكنّهُم أحجَموا عن ذلِكَ مَخافةَ رُدودِ فِعلِ الجُمُوعِ المُحتَشِدةِ.
جزية قيصر
20 فأخَذوا يُراقِبونَ سَيِّدَنا عيسى (سلامُهُ علينا)، ثُمّ أرسَلوا جَواسيسَ يَتَظاهِرونَ بالتَّقوى والصَّلاحِ للإيقاعِ بِهِ مِن خِلالِ كَلِمةٍ يَقولُها، ولِيُثبِتوا التُّهمةَ عليهِ أمامَ الحاكِمِ الرُّومانيِّ حتّى يَعتَقِلَهُ. 21 فسألَهُ أحَدُ هؤلاءِ الجَواسيسِ قائلاً: “يا فَضيلةَ المُعَلِّم، نَعرِفُ أنّكَ صادِقٌ في كَلامِكَ وتَعليمِكَ، ولا تُحابي أحَدًا، بل تُرشِدُ النّاسَ بالحَقِّ إلى نَهجِ اللهِ المُستَقيمِ. 22 فأخبِرْنا: أيَحِلُّ دَفعُ الجِزيةِ إلى القَيصرِ أم أنّ ذلِكَ حَرامٌ؟!” 23 وأدرَكَ (سلامُهُ علينا) مَكرَهُم فأجابَهُم قائلاً: 24 “أرُوني دينارًا”. فأرَوهُ إيّاهُ فنَظَرَ فيهِ وسألَ: “لِمَن الصّورةُ والشِّعارُ عليهِ؟!” فأجابوا: “لقَيصرَ”. 25 فقالَ: “إذَن أَعطُوا ما لقَيصرَ لقَيصرَ، وما للهِ للهِ”. 26 ولَم يَقدروا أن يُوقِعوهُ بكَلِمةٍ واحدةٍ أمامَ الجُموعِ، بل تَمَلَّكَتهُم الدَّهشةُ فصَمَتوا.
لا زواج في الآخرة
27 ودَنا مِن سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) بَعضُ رِجالِ الدِّينِ مِن طائفةِ الصَّدّوقيّينَ كان الصدّوقيون من أثرياء اليهود الذين يعملون جنبًا إلى جنب مع رجال الدين في بيت الله. وكانوا يعلّمون بأنّ أهمّ الأشياء في الحياة هو الذهاب إلى بيت الله وتقديم الذبائح هناك. ولم يكونوا يعتقدون أنّ هناك حياة بعد الموت، لأنّ ذلك لم يرد حرفيًّا في التوراة. مِمَّن كانوا يُنكِرونَ البَعثَ والآخِرةَ فسألوهُ: 28 “أيُّها المُعَلِّمُ، جاءَ عن النّبيِّ موسى في التَّوراةِ: “إذا ماتَ رَجُلٌ عَن امرأةٍ دونَ أن يُخَلِّفَ وَلَدًا يَرِثُهُ، فعلى أخيهِ الاقتِرانُ بأرمَلتِهِ لإنجابِ أولادٍ فيَنحَصِرَ إرثُ أخيهِ فيهِم”. 29 وكانَ عِندَنا سَبعةُ إخوةٍ، فتَزَوَّجَ أكبَرُهُم امرأةً ثُمّ تُوُفِّي دونَ وَلَدٍ، 30 فتَزَوَّجَها الأخُ الثّاني 31 وتُوُفِّيَ عَنها دونَ وَلَدٍ، ثُمّ تَزَوَّجَها الثّالثُ ولم تُنجِبْ لهُ أولادًا وهكذا دَوالَيكَ حتّى تَزَوَّجَها السّابِعُ، وتُوُفِّيَ عَنها. وقد تُوُفّوا عن تِلكَ المَرأةِ الواحِدُ إثرَ الآخَرِ دونَ أولادٍ. 32 ثُمّ تُوُفِّيَت المَرأةُ. 33 فأخبِرنا: زَوجةَ مَن ستَكونُ في الآخِرةِ، لأنّها كانَت زَوجتَهُم جَميعًا في الدُّنيا؟!” 34 فأجابَهُم (سلامُهُ علينا) قائلاً: “إنّ الزَّواجَ لأهلِ الدُّنيا ولَيسَ لأهلِ الآخِرةِ، 35 لأنّ الزَّواجَ لَيسَ مِن طَبيعةِ أهلِ الجَنّةِ، 36 ولأنّهُ لن يَكونَ في الآخِرةِ مَوتٌ، فأهلُ الجِنانِ يَنعَمونَ بالخُلودِ فيها كالمَلائكةِ. فهُم أولياءُ اللهِ المُقَرَّبونَ وقد انتَقَلوا إلى حَياةٍ جَديدةٍ! أمّا قيامةُ المَوتَى، 37 فقد أشارَ إليها النّبيُّ موسى في التَّوراةِ حِينَ ناداهُ رَبُّهُ مِن وَسَطِ النّارِ في الشَّجَرةِ المُقَدَّسةِ: “يا موسى إنّي أنا اللهُ، إلهُ إبراهيمَ وإسحَقَ ويَعقوبَ”. الإشارة هنا إلى الأنبياء الذين ماتوا هي دليل على أنّهم أحياء عند ربّهم. 38 وذلِكَ أنّ عِبادَ اللهِ لَيسوا أمواتًا بل كُلُّهُم أحياءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقونَ”. 39 فقالَ بَعضُ الفُقَهاءِ: “أصَبتَ في مَقالِكَ أيُّها المُعَلِّمُ الفاضِلُ”. 40 ولم يَعُد مُنذئذٍ لدى أحَدٍ مِمَّنِ اندَسَّ بَينَ جُموعِ أتباعِهِ (سلامُهُ علينا) الجُرأةُ على طَرحِ أسئلةٍ جَديدةٍ.
مَن هو الملك المنتظر؟
41 ثُمّ تَوَجَّهَ إليهِم سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) بَعدَ ذلِكَ مُتَسائلاً: “كَيفَ يَقولُ النّاسُ إنّ المَسيحَ المُنتَظَرَ مُنحَصِرٌ في سُلالةِ النّبيِّ داوُدَ وإنّهُ يَرِثُ عَرشَهُ؟ 42 وقد قالَ عَنهُ النّبيُّ داوُدُ نَفسُهُ في الزَّبورِ: “قالَ اللهُ تَعالى لمَولايَ، اجلِس عن يَميني، 43 حتّى أقهَرَ أَعداءَكَ وأجعَلَهُم تَحتَ قَدمَيكَ صاغِرينَ”. 44 فإذا دَعا داوُدُ المَسيحَ المُنتَظَرَ “مَولاي،” أفلَيسَ هذا دَليلاً على أنّ المَسيحَ المُنتَظَرَ أعظَمُ مِن داوُد؟!”§ يعتقد اليهود أنّ شأن ذريّة النبي داود يجب أن يكون دائما أقلّ من داود نفسه، وقد أشار سيدنا عيسى هنا أنّ المسيح المنتظر سيكون شأنه أعظم من شأن النبي داود.
احذرُوا الفُقهاء
45 والتَفَتَ سَيِّدُنا عيسى إلى أتباعِهِ قائلاً على مَسمَعٍ مِن الحاضِرينَ: 46 “إيّاكُم وفُقَهاءَ التَّوراةِ، لأنّهُم لا يَأبَهونَ إلاّ لتَلَقّي تَحِيّاتِ النّاسِ وتَقديرِهِم فيما هُم يَمشونَ في الأسواقِ بمَلابِسِ رِجالِ الدِّينِ الفاخِرةِ، وإنّ نَزعةَ الصَّدارةِ بالجُلوسِ في المَقاعدِ الأماميّةِ في بُيوتِ العِبادةِ، أو مَقاعدِ الشَّرفِ عِندَ كُلِّ وَليمةٍ لَتَتَملّكُهُم تَمَلُّكًا! 47 وإنّهُم ليُراؤونَ النّاسَ فيُطيلونَ صَلَواتِهِم، في حينِ يَنهَبونَ بُيوتَ الأرامِلِ، ألا إنّ لأولئكَ أشَدَّ العَذابِ”.

*الفصل العشرون:18 أشار السيد المسيح بالعبارة حجر الزاوية إلى نفسه.

الفصل العشرون:27 كان الصدّوقيون من أثرياء اليهود الذين يعملون جنبًا إلى جنب مع رجال الدين في بيت الله. وكانوا يعلّمون بأنّ أهمّ الأشياء في الحياة هو الذهاب إلى بيت الله وتقديم الذبائح هناك. ولم يكونوا يعتقدون أنّ هناك حياة بعد الموت، لأنّ ذلك لم يرد حرفيًّا في التوراة.

الفصل العشرون:37 الإشارة هنا إلى الأنبياء الذين ماتوا هي دليل على أنّهم أحياء عند ربّهم.

§الفصل العشرون:44 يعتقد اليهود أنّ شأن ذريّة النبي داود يجب أن يكون دائما أقلّ من داود نفسه، وقد أشار سيدنا عيسى هنا أنّ المسيح المنتظر سيكون شأنه أعظم من شأن النبي داود.