الفصل الحادي والعشرون
الصّدقة الصّادقة
وبَينَما كانَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) في الحَرَمِ الشَّريفِ، أخَذَ يُراقِبُ الأغنياءَ الّذينَ جاؤوا بالصَّدَقاتِ إلى صُندوقِ التَّبَرُّعاتِ، فأتَتْ أرمَلةٌ فَقيرةٌ وجادَت بفِلسَينِ. فقالَ (سلامُهُ علينا) مُخاطِبًا الحاضِرينَ: “لقد تَصَدَّقَت هذِهِ الأرمَلةُ الفَقيرةُ بأضعافِ ما تَصَدَّقَ بِهِ هؤلاءِ جَميعًا، فقد أعطى هؤلاءِ جُزءًا يَسيرًا مِن فَيضِ مالِهِم، أمّا هي فقد أَعطَت كُلَّ ما لَدَيها على رَغمِ فَقرِها وهو ما كانَ يَجِبُ أن تُنفِقَهُ على نَفسِها لتَعيشَ!”
خرابُ القدس
وأخَذَ بَعضُ أتباعِهِ (سلامُهُ علينا) بَعدَ ذلِكَ يَتَحَدِّثونَ عن حَرَمِ بَيتِ اللهِ، وعن رَوعةِ ما فيهِ مِن أحجارٍ جَميلةٍ تُزَيِّنُهُ ومِن تُحَفٍ مَنذورةٍ للهِ. فالتَفَتَ إليهِم عيسى (سلامُهُ علينا) قائلاً: “إنّ كُلَّ ما تَرونَهُ إلى زَوالٍ، فسيأتي زَمَنٌ يُهَدَّمُ فيهِ الحَرَمُ بما فيهِ، ولن يَبقَى فيهِ حَجَرٌ على حَجَرٍ”.
فسألوهُ: “أيُّها المُعَلِّمُ، مَتى يَكونُ زَمَنُ ذلِكَ الخَرابِ، وما هي العَلاماتُ الّتي تَسبِقُهُ؟” فأجابَهُم قائلاً: “احذَروا أن يُضِلَّكُم أحَدٌ عن السَّبيلِ! فسيأتي الكَثيرونَ مِمَّن يَنتَحِلونَ لَقَبي، فيَدَّعي أحَدُهُم قائلاً: “أنا حَبيبُ اللهِ!” و”قد اقتَرَبَت السّاعةُ!” فلا تُصَدِّقوا هؤلاءِ مُطلَقًا. وإنّكُم ستَسمَعونَ عن حُروبٍ وفِتَنٍ تَقومُ في الأرضِ، فلا تَخافوا لأنّهُ لا بُدَّ مِن ظُهورِ هذِهِ العَلاماتِ، ولئن ظَهَرَت فإنّ السّاعةَ لن تَقومَ مِن فَورِها. 10 ألا وإنّ حُروبًا بَينَ الدُّوَلِ والمَمالكِ ستَقومُ، 11 وستَحُلُّ الزَّلازِلُ والمَجاعاتُ والأوبئةُ في أنحاءٍ كَثيرةٍ مِن الأرضِ، وستُبدي السَّماءُ آياتِها الرَّهيبةَ الكُبرى!
12 ولكنْ قَبلَ هذِهِ الأُمورِ كُلِّها، سيَحُلُّ عليكُم ظُلمٌ واضطِهادٌ، وسيَسوقُكُم النّاسُ إلى المَحاكمِ الدِّينيّةِ والسُّجونِ، وسيَتَّهِمونَكُم أمامَ المُلوكِ والوُلاةِ بأنّكُم أنصاري! 13 وستَكونُ تِلكَ فُرصتَكُم لإعلانِ شَهادَتِكُم فيَّ على المَلأِ، 14 ولكنْ لا تُرهِقوا أنفُسَكُم بإعدادِ الدِّفاعِ عن أنفُسِكُم، 15 لأنّي سأمنَحُكُم لُغةَ البَيانِ والحِكمةِ الّتي يَقِفُ خُصومُكُم عاجِزينَ أمامَها”. 16 وسيَخونُكُم آباؤكُم وإخوانُكُم وأقرباؤكُم وأصدقاؤكُم، بل إنّ بَعضَكُم سيُقتَلونَ أيضًا. 17 وستَكونونَ مَوضِعَ بُغضِ جَميعِ النّاسِ لإخلاصِكُم لي. 18 ولكن لا خَوفَ عليكُم، 19 لأنّكُم بثباتِكُم عِندَ تِلكَ المُلِمّاتِ ستَكسِبونَ أنفُسَكُم.
20 ثُمّ تابَعَ (سلامُهُ علينا) يَقولُ: “وعِندَما تَرونَ مَدينةَ القُدسِ وقد أوشَكَت أن تُحيطَ بها الجُيوشُ، فتأكّدوا أنّ مَوعِدَ خَرابِها قد حانَ. 21 حينئذٍ ليَهرُبْ مَن كانَ في مِنطقةِ يَهوذا إلى الجِبالِ، وليَهجُر القُدسَ مَن كانَ فيها. وأمّا مَن كانَ خارِجَها فلا يَدخُلْها، 22 ففي تِلكَ الفَترةِ ستَنالُ القُدسُ عِقابَها مِن اللهِ. ويَتَحَقّقُ الوَعدُ الحقُّ كَما جاءَ في الكُتُبِ المُقَدَّسةِ. 23 ووَيلٌ حينئذٍ للحَواملِ والمُرضِعاتِ مِمّا سيَحُلُّ في هذِهِ الأرضِ مِن اضطِراباتٍ وغَضَبٍ مِن اللهِ على هذا الشَّعبِ 24 الّذي سيُقتَلُ بَعضٌ مِنهُ بحَدِّ السَّيفِ، وسيُساقُ الباقونَ سَبايا إلى كُلِّ الأُمَمِ، وسيَحتَلُّ الأغرابُ المَدينةَ المُقَدَّسةَ إلى أجلٍ مُسَمًّى.
علامات قيام السّاعة
25 وتابَعَ (سلامُهُ علينا) قائلاً: “وستَبدو بَعدَ ذلِكَ في السَّماءِ عَلاماتٌ عَجيبةٌ في الشَّمسِ والقَمَرِ والنُّجومِ، وسيُصيبُ أُمَمَ الأرضِ اضطِرابٌ ورُعبٌ بسَبَبِ هَيَجانِ البِحارِ وثَورةِ أمواجِها، 26 وسيُغمَى على النّاسِ لِهَولِ ما يَرَونَهُ مِن دَمارٍ زاحِفٍ على العالَمِ، إذ تَضطَرِبُ حَرَكةُ الأجرامِ السَّماويّةِ فتَفقِدَ تَوازنَها،* كان الاعتقاد سائدا في القديم أنّ النجوم هي قوى روحانية، بينما كان البعض يجعلون النجوم نظير الشعوب، لذا فإنّ ما ذكره سيّدنا المسيح قد يعني بأنّ الله سيزلزل القوى الأرضية (الشعوب) أو القوى الروحانية التي تعارض الله (الجن والشياطين). 27 عِندئذٍ سيَرَى النّاسُ سَيِّدَ البَشَرِ قادِمًا في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ بكُلِّ عِزّةٍ وهَيبةٍ، 28 فحينَ تَرَونَ حُدوثَ ذلِكَ كُلِّهِ، قِفوا وارفَعوا رُؤوسَكُم بافتِخارٍ لأنّ نَجاتَكُم صارَت قَريبةً!”
29 وضَرَبَ لهُم (سلامُهُ علينا) مَثَلاً قائلاً: “عِندَما تَنظُرونَ إلى التِّينةِ أو غَيرِها مِن الأشجارِ، 30 وتَرَونَ اخضِرارَ أوراقِها، تَعلَمونَ أنّ الصَّيفَ قد اقتَرَبَ. 31 وكذلِكَ عِندَما تَرونَ هذِهِ الأحداثَ، فتَيَقَّنوا أنّ مَوعدَ قيامِ المَملَكةِ الرَّبّانيّةِ باتَ قَريبًا. 32 والحقّ أقولُ لكُم، إنّ كُلَّ هذِهِ الأشياءِ ستَحدُثُ قَبلَ أن تَنقَضيَ هذِهِ الجَماعة. 33 ألا وإنّ السَّماواتِ والأرضَ زائلاتٌ، وكَلامي باقٍ لن يَزولَ!
34 فانتَبِهوا لأنفُسِكُم واجتَنِبوا السُّكرَ والانغِماسَ في المَلَذّات والغَرقَ في هُمومِ الحَياةِ، لِئلاّ يأتيَ عليكُم ذلِكَ اليَومُ الرَّهيبُ بَغتةً وأنتُم في غَفلةٍ عَنهُ. 35 إنّه سيأتي لكُلِّ إنسانٍ حَيٍّ على وَجهِ الأرضِ. 36 فكونوا على حَذَرٍ وواظِبوا على الدُّعاءِ طالِبينَ القوّةَ على الصُّمودِ أمامَ هذِهِ الفِتَنِ لِتَقِفوا أمامَ سَيِّدِ البَشَرِ عِندَ مَجيئِهِ”.
37 وكانَ مِن عادةِ سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) أن يُعَلِّمَ النّاسَ نَهارًا في الحَرَمِ الشَّريفِ، ثُمّ يَخرُجُ مِن القُدسِ للمَبيتِ لَيلاً في جَبَلِ الزَّيتونِ. 38 وكانَت جُموعُ النّاسِ تُبَكِّرُ صَباحًا إلى الحَرَمِ للإصغاءِ إليهِ.

*الفصل الحادي والعشرون:26 كان الاعتقاد سائدا في القديم أنّ النجوم هي قوى روحانية، بينما كان البعض يجعلون النجوم نظير الشعوب، لذا فإنّ ما ذكره سيّدنا المسيح قد يعني بأنّ الله سيزلزل القوى الأرضية (الشعوب) أو القوى الروحانية التي تعارض الله (الجن والشياطين).