الفصل السّادس عشر
الإصرار على آية من السّماء
وأقبَلَ على سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) جَماعةٌ مِن المُتَشَدِّدينَ والصَّدّوقيّينَ طالبينَ مِنهُ مُعجِزةً مِن السَّماءِ تَكونُ لهُم بُرهانًا يُقنِعُهُم أنّهُ مُرسَلٌ مِن عِندِ اللهِ.* كان المتشددون والصدوقيون في الغالب أعداء بعضهم بعض، ولكن كلتا من الطائفتين اعتبرتا أن سيِّدنا عيسى يتحدّى مناصبهم ونفوذهم. ولكنّهُ رَدَّ عليهِم قائلاً: “ألا تُفَسِّرونَ ظَواهِرَ الطَّبيعةِ؟ فعِندَما تَرونَ السَّماءَ وقد اصطَبَغَت بلَونٍ أحمَرَ عِندَ الغُروبِ تُوقِنونَ بأنّ الجَوَّ سيَكونُ صافيًا في الغَدِ. وإن رأيتُموها حَمراءَ مُلَبَّدةً بالغُيومِ في الصَّباحِ، أيقَنتُم بقُربِ هُبوب عاصِفةٍ لا مَحالةَ. يا لَلعَجَب! كَيفَ تَستَطيعونَ رَصدَ العَلاماتِ الطَّبيعيّة الّتي تَظهَرُ في السَّماءِ، وتَعجِزونَ عن رَصدِ عَلامات اللهِ الّتي تَظهَرُ في زَمانِكُم هذا؟! وإنّ مِنكُم لفِئةً شِرّيرةً فاسِقة تُلِحّ دائمًا في طَلَبِ مُعجِزةٍ للتَّصديقِ بي، ولكنّ اللهَ لن يُعطيهِم مُعجِزةً إلاّ تِلكَ الّتي كانَت للنَّبيِّ يونسَ”. ثُمّ تَرَكَهُم ومَضَى.
مَثَل الخمير كرمز للفساد
وبَعدَ عُبورِ سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) وأتباعِهِ البُحَيرةِ، تَوَجَّهَ إليهِم قائلاً: “احذَروا خَميرَ المُتَشَدِّدينَ والصَّدّوقيّينَ”. فأخَذوا يَتَهامَسونَ فيما بَينَهُم قائلينَ: “أيَقولُ لنا سَيِّدُنا ذلكَ، لأنّنا نَسِينا أن نَحمِلَ خُبزًا مَعَنا؟” فأدرَكَ عيسى (سلامُهُ علينا) ما يَدورُ في خاطِرِهِم فقالَ لهُم: “يا لَضُعفِ إيمانِكُم بي! لِمَ أنتُم مُنشَغِلونَ بطَعامِكُم؟ ألم تُدرِكوا أنّ رِزقَ اللهِ لا يَنفَدُ؟ ألا تَذكُرونَ ما فَعَلَ اللهُ بالأرغِفةِ الخَمسةِ الّتي أشبَعَت خَمسةَ آلاف شَخصٍ وفَضَلَ مِنها سِلالٌ أخَذتُموها؟ 10 ثُمّ أنَسيتُم أنّ اللهَ بارَكَ رِزقَكُم فأشبَعَ أربعةَ آلاف شَخصٍ بسَبعةِ أرغِفةٍ، فَضُلَ مِنها مِن الكِسَرِ ما وَضَعتُموهُ في سِلالٍ؟ 11 ما بالُكُم لم تَفهَموا أنّي لم أكُن أعني الخُبزَ حَرفيًّا بكَلامي؟ وأقولُ لكُم مَرّةً أُخرى: اِحذَروا خَميرَ المُتَشَدِّدينَ والصَّدّوقيّينَ!” 12 عِندَ ذلِكَ أدرَكَ الأتباعُ أنّهُ قَصَدَ بذلكَ أن يَتَجَنَّبوا تَعاليمَ المُتَشَدِّدينَ والصَّدّوقيّينَ، وما ساقَ خَميرَ الخُبزِ إلاّ رَمزًا. يعني سيِّدنا عيسى أن تعاليم المتشددين والصدوقيين الفاسدة أثرت على كلّ الشعب، كما يؤثر قليل من الخميرة على كمية كبيرة من العجين.
أنت المسيح الابن الروحيّ لله
13 وعِندَما وَصَلَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) مِنطقةَ بَلدةِ قيصريّةِ فيليبَ الواقِعةِ على سَفحِ جَبَلِ الشَّيخ، أخَذَ يَسألُ أتباعَهُ: “أخبِروني: في رأي النّاسِ، مَن أكونُ أنا سَيِّدَ البَشَرِ؟!” 14 فأجابوهُ قائلينَ: “يَرى بَعضٌ أنّكَ النَّبيُّ يَحيى بِن زَكَريّا وقد بُعِثَ حَيًّا. ويَقولُ آخَرونَ إنّكَ النَّبيُّ إلياسُ وقد عادَ مِن غَيبتِهِ، وفِئةٌ ثالثةٌ تَقولُ إنّكَ النَّبيُّ إرميا أو أحَدُ الأنبياءِ الأوّلينَ وقد عادَ إلى الحَياةِ”. 15 فبادَرَهُم قائلاً: “وأنتُم، ماذا تَقولونَ؟!” 16 فأجابَهُ بُطرُسُ الصَّخَرُ بقَولِهِ: “إنّكَ أنتَ المَسيحُ الابنُ الرُّوحيُّ للهِ الحَيّ!” 17 فقالَ لهُ (سلامُهُ علينا): “هَنيئًا لكَ يا بُطرُسُ بهذا! وإنّ مَن كَشَفَ لكَ عن هذا السِّرِّ لَيسَ بَشَرًا بل هو اللهُ أبي الصَّمَدُ في عُلاه، 18 وإنّي أُطلِقُ عليكَ لَقَبَ الصَّخَرِ. وعلى أساسِ تِلكَ الصَّخرةِ سأُقيمُ أُمّتي، فيَكونُ إيمانُها راسخًا وأبوابُ المَوتِ لن تَصمُدَ أمامَها! كان عالم الأموات يُصوَّر أحيانا كأنه مدينة تحت الأرض اسمها “هاديس” محاطة بالعديد من الأسوار والأبواب لكي تمنع من يدخلها من الرجوع إلى عالم الأحياء. ويقول السيد المسيح إن تلك الأبواب لن تصمد أمام أتباعه. وقد وضّح المسيح لأتباعه بعد بعثه حيا أنه حصل على مفاتيح تلك الأبواب مما يعني أنه انتصر على قوة الموت (انظر كتاب الرؤيا 1: 18). 19 وإنّي مُعطيكَ مَفاتيحَ مَملكةِ اللهِ على الأرضِ لتَفتَحَ أبوابَها أمامَ مَن تَقَبَّلَ تَعاليمي، واعلَمْ أنّ اللهَ مَنَحَكَ المَقدِرةَ على تَبليغِ رِسالتي وتَفسيرِ تَعاليمي وخُصوصًا مِنها تِلكَ الّتي تَتَعلَّقُ بالحَلِّ والرَّبطِ”.§ استعمل الحواري بطرس الصخر هذه المفاتيح (كما نرى في سيرة الحواريين) للسماح بالدخول رسميا إلى المملكة الربانية، أولا لليهود (انظر سيرة الحواريين 2: 1‏-41)، ثمّ للسامريين (سيرة الحواريين 8: 14‏-17) وأخيرا لغير اليهود (سيرة الحواريين 10: 1‏-48). 20 ثُمّ طَلَبَ (سلامُهُ علينا) مِن أتباعِهِ ألاّ يُخبِروا أحَدًا مِن عامّةِ النّاسِ إنّهُ المَسيحُ المُنقِذُ المُنتَظَرُ.
عيسى (سلامُهُ علينا) ونبوءته عن موته
21 ثُمّ أخَذَ (سلامُهُ علينا) يُعلِنُ لأتباعِهِ أنّ عليهِ الذَّهابَ إلى القُدسِ، حَيثُ تَشتَدُّ عليهِ الأحزانُ والآلامُ مِن قِبَلِ قادةِ الشَّعبِ والفُقَهاءِ ورُؤساءِ الأحبارِ، ويُقاسي آلامَ المَوتِ ثُمّ يُبعَثُ حيًّا في اليومِ الثَّالث. 22 وبَعدَ قَولِهِ هذا، انتَحَى بِهِ بُطرُسُ الصَّخَرُ جانبًا مُعاتِبًا: “لا قَدَّرَ اللهُ يا سَيِّدي، كلاّ! لن يَحدُثَ ذلكَ!” 23 فالتَفَت سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) إلى بُطرُسَ الصَّخَر قائلاً: “ابتَعِدْ عنّي، إنّكَ تُحاوِلُ إعاقةَ مَسيرَتي فتُعانِدُ مَشيئةَ اللهِ كَما عاندَها الشَّيطانُ! إنّكَ لم تَفهَم مَقاصِدَ اللهِ بل إنّ أفكارَكَ ما زالَت دُنيويّةً”.* بينما كان سيِّدنا عيسى يمدح بطرس على اعترافه بأنه المسيح المنتظر، لم يفهم بطرس أنّ الله قدّر على المسيح أن يتألم كثيرا ويموت ثم يبعث حيا. فيؤنبه بذلك بصرامة بسبب اعتراضه على مقصد الله. 24 ثُمّ خاطَبَ أتباعَهُ قائلاً: “مَن أرادَ مِنكُم أن يَنتَمي إليّ فيَجِبُ عليهِ أن يُنكِرَ ذاتَهُ، ويَستَعِدَّ للتَّعذيبِ صَلبًا والمَوتِ في سَبيلي، ثُمّ يَتبَعُني. 25 فكُلُّ الّذينَ أرادوا الحِفاظَ على حَياتِهِم الدُّنيا، أولئكَ هُم الخاسِرونَ، ومَن يُضَحّونَ بها في سَبيلي، أولئكَ هُم الفائزونَ. 26 فماذا يَنفَعُ الإنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّهُ، وخَسِرَ نَفسَهُ؟ ما مِن شَيءٍ في هذِهِ الدُّنيا يُمكِنُهُ أن يَفدي الإنسانَ ويُنَجّيهِ يومَ الحِسابِ! 27 وإنّ سَيِّدَ البَشَر سيَأتي إلى العالَمِ مُحاطًا بجَلالِ اللهِ أبيهِ الصَّمَدِ مَرفوقًا بالمَلائكةِ الأطهارِ، وحِينَئذٍ سيُحاسِبُ كُلَّ إنسانٍ على أعمالِهِ. 28 والحَقَّ أقولُ لكُم: إنّ بَعضًا مِن الحاضِرينَ مِنكُم هُنا لن يَموتوا حتّى يَرَوا سَيِّدَ البَشَر مَلِكًا على المَملكةِ الرَّبّانيّةِ”. كان سيِّدنا عيسى يشير بهذا الكلام على ما يبدو إلى بعثه حيا بعد موته، وجلوسه في السماء على يمين عرش الله كالملك المسيح المختار، وهو ما كان سيحدث في المستقبل القريب، بعد سنة من تنبؤه هذا. كما أنّ حادثة التجلّي في الفصل 17 تُظهر المسيح في سموِّ عظمة مُلكِه.

*الفصل السّادس عشر:1 كان المتشددون والصدوقيون في الغالب أعداء بعضهم بعض، ولكن كلتا من الطائفتين اعتبرتا أن سيِّدنا عيسى يتحدّى مناصبهم ونفوذهم.

الفصل السّادس عشر:12 يعني سيِّدنا عيسى أن تعاليم المتشددين والصدوقيين الفاسدة أثرت على كلّ الشعب، كما يؤثر قليل من الخميرة على كمية كبيرة من العجين.

الفصل السّادس عشر:18 كان عالم الأموات يُصوَّر أحيانا كأنه مدينة تحت الأرض اسمها “هاديس” محاطة بالعديد من الأسوار والأبواب لكي تمنع من يدخلها من الرجوع إلى عالم الأحياء. ويقول السيد المسيح إن تلك الأبواب لن تصمد أمام أتباعه. وقد وضّح المسيح لأتباعه بعد بعثه حيا أنه حصل على مفاتيح تلك الأبواب مما يعني أنه انتصر على قوة الموت (انظر كتاب الرؤيا 1: 18).

§الفصل السّادس عشر:19 استعمل الحواري بطرس الصخر هذه المفاتيح (كما نرى في سيرة الحواريين) للسماح بالدخول رسميا إلى المملكة الربانية، أولا لليهود (انظر سيرة الحواريين 2: 1‏-41)، ثمّ للسامريين (سيرة الحواريين 8: 14‏-17) وأخيرا لغير اليهود (سيرة الحواريين 10: 1‏-48).

*الفصل السّادس عشر:23 بينما كان سيِّدنا عيسى يمدح بطرس على اعترافه بأنه المسيح المنتظر، لم يفهم بطرس أنّ الله قدّر على المسيح أن يتألم كثيرا ويموت ثم يبعث حيا. فيؤنبه بذلك بصرامة بسبب اعتراضه على مقصد الله.

الفصل السّادس عشر:28 كان سيِّدنا عيسى يشير بهذا الكلام على ما يبدو إلى بعثه حيا بعد موته، وجلوسه في السماء على يمين عرش الله كالملك المسيح المختار، وهو ما كان سيحدث في المستقبل القريب، بعد سنة من تنبؤه هذا. كما أنّ حادثة التجلّي في الفصل 17 تُظهر المسيح في سموِّ عظمة مُلكِه.