الفصل الرّابع
متابعة المسيح لإبلاغ رسالته
وتابَعَ سَيِّدُنا عِيسَى (سلامُهُ علينا) هِدايَتَهُ لِلنّاسِ عِندَ شاطِئِ بُحَيرةِ طَبَريّا. واجتَمَعَ حَولَهُ حَشدٌ كبيرٌ مِنَ النّاسِ، فَصَعِدَ إلى قارِبٍ كانَ فَوقَ الماءِ وجَلَسَ فيهِ وخاطَبَ المُحتَشِدينَ على الشّاطِئِ، مُبلِغًا كَثيرًا مِن تَعاليمِ رِسالَتِهِ ضارِبًا لهمُ الأمثالَ:
“أَيُّها النّاسُ، عِندي لَكُم مَثَلٌ فاستَمِعوا إليهِ: خَرَجَ أحَدُ الزّارِعينَ إلى حَقلِهِ ليَبذُرَ فيهِ البُذورَ. وبَينَما كانَ يَنثُرُها سَقَطَ بَعضُها خارِجَ التُّربةِ المَحروثةِ، فالتَقَطَتها الطُّيورُ، وسَقَطَ بَعضُها على تُربةٍ صَخريّةٍ، فنَبَتَت بِسُرعةٍ. ولكِنّ الشَّمسَ أحرَقَتْها فماتَت في الحالِ، لأنّها لم تَكُن ذاتَ جُذورٍ. وسَقَطَ بَعضٌ بَينَ الشَّوكِ، فخُنِقَ ولم يُثمِرْ. أمّا الباقي مِن تِلكَ البُذورِ فسَقَطَ في التُّربةِ الخِصبةِ في الحَقلِ، فَنَما وأثمَرَ، وأعطَى بَعضُهُ ثلاثينَ ضِعفًا، وَبَعضُهُ سِتّينَ، وبَعضُهُ مِئَةً”. ثُمَّ أنعَمَ فيهِم النَّظَرَ وقالَ: “مَن لَهُ أُذُنانِ لِلسَّمعِ فلْيَسمَعْ!”
العبرة في ضرب المسيح الأمثال
10 وسَأَلَ الأتباعُ والحَواريّونَ الاثنا عَشَرَ سَيِّدَنا عِيسَى (سلامُهُ علينا) في خَلوةٍ، عَن مَعنى ما ضَرَبَ مِن الأمثالٍ 11 فقالَ: “لَقد أُنعِمَ عَليكُم أن تَعرِفوا سِرَّ المَملكةِ الرَبّانيّةِ. أمّا الآخَرونَ خارِج دائرَتِنا فلَيسَ لهم إلاّ ظاهِرُ الخَبَرِ بالأمثالِ دونَ تَفسيرِ، 12 فَهُم يُشبِهونَ أُولئكَ الّذينَ أخبَرَ عنهُم النّبيُّ أشعيا قائِلاً:
لهُم عُيونٌ يَشهَدونَ بها أعمالي، ولَكِن لا يَفهَمونَها،
ولَهُم آذانٌ يَسمَعونَ بها أقوالي، ولَكِن لا يَفقهونَها.
إنّهُم عَنِ الهدايةِ مُدبِرونَ، ولِلتَّوبةِ تارِكونَ، وعَن مَغفِرةِ اللهِ مُعرِضونَ”.
13 ثُمَّ أنعَمَ النَّظَرَ في الجَميعِ قائِلاً: “أما وَعَيتُم مَغزى مَثَلِ الزّارِعِ؟ فكَيفَ لَكُم إن لم تَعوهُ أن تَعُوا غَيرَهُ مِنَ الأمثالِ؟ 14 إنّما مَثَلُ البُذورِ كَمَثلِ كَلِماتِ اللهِ يُلقيها الدّاعي إلى اللهِ في نُفوسِ البَشَرِ، 15 فَمِنَ البُذورِ ما يَقَعُ في الأُذُنِ وُقوعَ البَذرةِ على الطّريقِ، فيأتي الشَّيطانُ فيَنزَعُها في الحالِ. 16 ومِنها ما يَقَعُ في النّفسِ فيَفرَحُ صاحِبُها بها، 17 ولكِنّهُ ذو قَلبٍ قاسٍ فلا يَكونُ لِتِلكَ الكَلِماتِ تَأثيرٌ فيهِ فإن تَعَرَّضَ لامتِحانٍ بسَببِ الرِّسالةِ ارتَدَّ على عَقِبَيهِ وانقَلَبَ. 18‏-19 ومِنها ما يَقَعُ في نَفسٍ ذاتِ أهواءٍ، صاحِبُها عَبدٌ لِشَهَواتِهِ تَخدَعُهُ الدُّنيا ويُغوِيهِ المالُ، فيَكونُ ذلِكَ بمَثابةِ الأشواكِ الَّتي تَخنُقُ رِسالةَ اللهِ في نَفسِهِ فَتَموتُ، فلا أثَرَ لها ولا ثَمَرَ. 20 ومِنها ما يَقَعُ في قَلبِ حَيٍّ فيُثمِرَ أعمالاً صالِحةً كما تُثمِرُ البُذورُ في الأرضِ الصّالِحةِ ثلاثينَ مِنَ الأضعافِ أَو سِتّينَ أو مِئة. كذا العَبدُ الصّالِحُ تَظَلُّ نَفسُهُ في رِحابِ كَلِماتِ اللهِ، وقَلبُهُ في خُشوعٍ لا يَنقَطِعُ”.
ضربه السراج مثلا لأتباعه
21 ثُمَّ أَضافَ قائِلاً:
“أيَجوزُ أن يُوضَعُ المِصباحُ تَحتَ مِكيالِ الحُبوبِ أو تَحتَ السَّريرِ؟! ألَيسَ مَوضِعُهُ في الواقِعِ في مَكانٍ عالٍ؟ 22 هكذا رِسالَةُ اللهِ كَالنُّورِ تَكشِفُ الأسرارَ وتُظهِرُ الخَفايا، وتُعلِنُ ما كانَ مُضمَرًا في النُّفوسِ”. 23 ثُمّ عَقَّبَ قائِلاً: “مَن لَهُ أُذُنانِ لِلسَّمعِ فليَسمَعْ!”
الأخذ الصادق بالتعاليم
24 وتَوَجَّهَ سَيِّدُنا عِيسَى إلى أتباعِهِ قائِلاً: “خُذوا ما أُلقيَ عَليكُم مِن تَعاليمِ اللهِ. واغترِفوا بِقَدرِ ما تَستَطيعونَ مِنها واجتَهِدوا في تَطبيقِها، فَبِقَدرِ قُبولِكُم لها يَفتَحُ اللهُ عَليكُم ويَزيدُ. 25 أمّا مَن أخَذَ مِنّي ولم يُقبِلْ قَلبُهُ وعَقلُهُ على الرِّسالَةِ، فحَتّى ما عِندَهُ مِن مَعرِفةٍ سَيأخُذُها اللهُ مِنهُ ولن يَفتَحَ اللهُ عَليهِ”.
مَثَل الأرض الخصبة والزرع النامي
26 وتابَعَ سَيِّدُنا عِيسَى ضَربَ الأمثالِ قائِلاً: “ومَثَلُ المَملكةِ الرَّبّانيّةِ كَمَثلِ الأرضِ الطَّيّبةِ الّتي يَبذُرُ فيها الزّارِعُ بُذورَهُ 27 ثُمّ يَترُكُها مَساءً وفي الصَّباحِ يَجِدُ أنّها نَبَتَت وأثمَرَتْ وهو لا يَدري. 28 فالبَذرةُ الّتي احتَضَنَتها الأرضُ الطَّيّبةُ تَنبُتُ وتُبَرعِمُ فتَنحَني مِن ثِقَلِ سَنابِلِها 29 وتَنضُجُ فيَحصِدُها الزّارعُ. كذا أنتُم المُؤمِنونَ بِرِسالةِ اللهِ”.* المقصود أنّ البذرة الصالحة التي هي تعاليم السماء التي زرعها عيسى (سلامُهُ علينا) في نفوس أتباعه لِتنبتَ وتُثمرَ، وعندما تحين ساعة حصادها تتجلّى في الأعمال والأخلاق الصالحة لأتباعه التي ستنتشر وسيلمس الناس آثارها.
مثل حبة الخردل
30 وتابَعَ حَديثَهُ لأتباعِهِ قائِلاً: “كَيفَ أوضِّحُ لكُم سِرَّ المَملكةِ الرَّبّانيّةِ، وبِماذا أُشَبِّهُها؟ 31 إنّها تُشبِهُ حَبّةَ الخَردلِ الّتي هي أصغَرُ البُذورِ، 32 أخَذَها إنسانٌ وبَذَرَها في الأرضِ فانشَقَّتْ عَن نَبتَةٍ سامِقةٍ ربَت في طولِها على كُلِّ الأشجارِ، وأصبَحَت عَظيمةً في كَثافةِ أغصانِها، يَرتادُها الطَّيرُ ليَسكُنَ فيها ويُعَشِّشَ بَينَ أغصانِها”.
33 وكانَ سَيِّدُنا عِيسَى (سلامُهُ علينا) لا يُعَلِّمُ النّاسَ رِسالةَ اللهِ إلاّ بالأمثالِ، وذلِكَ على قَدرِ استيعابِهِم. 34 إلاّ أنّهُ كانَ إذا خَلا إلى حَواريِّيهِ اِستفاضَ في الشَّرحِ والتِّبيانِ.
معجزة المسِيح في الطبيعة
35 وعِندَ المَساءِ، طَلَبَ سَيِّدُنا عِيسَى مِن حَواريِّيهِ العُبورَ إلى الضِّفةِ الأُخرى مِن بُحَيرةِ طَبَريّا، 36 وجَلَسَ هُناكَ في القارِبِ بَعدَ أن تَرَكَ الحُشودَ على الشّاطِئِ، وسارَ بِهِ القارِبُ وتَبِعَتْهُ قَوارِبُ أُخرى. 37 وفَجأةً هَبَّت عاصِفةٌ شَديدةٌ وأخَذَتِ الأمواجُ تَضرِبُ القارِبَ حَتّى كادَ يَمتَلئُ ماءً. 38 إلاّ أنّ عِيسَى (سلامُهُ علينا) استَمَرَّ في نَومِهِ ورَأسُهُ على وِسادةٍ حَتّى أيقَظَهُ حَوارِيّوهُ بفَزَعٍ قائِلينَ: “يا فَضيلَةَ المُعَلِّمِ، أما يَهُمُّكَ أنّنا نَكادُ نَهلِكُ؟!” 39 فما كانَ مِنهُ إلاّ أن نَهَضَ، وأَمَرَ الرِّياحَ والأمواجَ قائِلاً: “اِهدَئي أيَّتُها الرِّياحُ واُسكُني أيَّتُها الأمواجُ!” فَكَفَّت الرِّياحُ وسَكنَتِ الأمواجُ وهَدأتِ العاصِفةُ وسادَ الجَوَّ سُكونٌ عَميقٌ. 40 ثُمّ تَوَجَّهَ إلى أتباعِهِ قائِلاً: “ما لكُم خَائفينَ؟ ألَم تُؤمِنوا بي بَعدُ؟”
41 ولكِنّهُم كانوا ذاهِلينَ، وأسَرَّ بَعضُهُم إلى بَعضٍ قائِلينَ: “ما سِرُّ هذا الإنسانِ الّذي يَأمُرُ الرِّياحَ فتُطِيعُهُ، ومِياهَ البُحَيرةِ فَتُجيبُهُ؟!”

*الفصل الرّابع:29 المقصود أنّ البذرة الصالحة التي هي تعاليم السماء التي زرعها عيسى (سلامُهُ علينا) في نفوس أتباعه لِتنبتَ وتُثمرَ، وعندما تحين ساعة حصادها تتجلّى في الأعمال والأخلاق الصالحة لأتباعه التي ستنتشر وسيلمس الناس آثارها.