الفصل الخامس
‏طرد الجنّ وغرق الخنازير
ولمّا وَصَلَ سَيِّدُنا عِيسى وأتباعُهُ إلى الشّاطئِ المُقابِلِ لِبُحيرةِ طَبَريّا، نَزَلوا في مِنطقةٍ يَسكُنُها الوَثنيّونَ تُسمّى الجِراسيّينَ. وعِندَ نُزولِهِ (سلامُهُ علينا) مِنَ القارِبِ فَجأةً دَنا مِنهُ رَجُلٌ خارجٌ مِن مِنطقةِ المَقابِرِ، غَريبُ الأطوارِ تَسكُنُهُ الجانُ، خَطيرةٌ أعمالُهُ، يُقيِّدُهُ النّاسُ، فيَكسِرُ أعتى القُيودِ والسَّلاسِلِ، ولا أحَدَ يَقوى على لَجمِهِ، كانَتِ القُبورُ لهُ مَسكنًا يَتردَّدُ بَينَها وبَينَ الجِبالِ ليلَ نَهارَ، ويَهيمُ صائِحًا مُدَوِّيًا، مُجَرِّحًا جَسدَهُ بالحِجارةِ. 6‏-8 فلمّا شاهَدَ سَيِّدَنا عِيسى (سلامُهُ علينا) عَن بُعدٍ، أسرَعَ إليهِ، غَيرَ أنّ السّيِّدَ المَسيحَ تَوَجَّهَ إليهِ وخاطَبَ الجِنَّ الّذي يَسكُنُهُ قائلاً: “اُترُكْ أَيُّها الجِنيُّ جَسَدَ هذا الرَّجُلِ!” فما كانَ مِنَ الجِنيِّ السّاكِنِ الرَّجُلَ إلاّ أنِ انحَنى بَينَ يَدَيهِ صائِحًا بأعلى صَوتِهِ، على لِسانِ الرَّجُلِ، قائلاً: “يا عِيسَى، أيُّها الابنُ الرُّوحيُّ للهِ العَليّ، دَعني وشأني! أستَحلفُكَ باللهِ ألاّ تُعَذّبَني!” فسألَهُ سَيِّدُنا عِيسَى: “ما اسمُكَ؟” فأجابَ: “اسمي كَتيبةٌ، لأنّنا كَثيرونَ. 10 فأرادَ سَيِّدُنا عِيسَى أَن يأمُرَهُ والباقينَ بِمُغادَرةِ الرَّجُلِ. إلاّ أنّ الجِنَّ تَوسَّلوا إليهِ أن يَترُكَهُم في تِلكَ المِنطقةِ وألاّ يَطرُدَهُم مِنها، 11‏-13 مُفَضِّلينَ الحُلولَ في الخَنازيرِ الّتي تَرعى على مُنحدَرِ الجَبَلِ هُناكَ، فأذِنَ سَيّدُنا عِيسَى لهُم بذلِكَ. وهكذا حَلَّتِ الجِنُّ في الخَنازيرِ الّتي ناهَزَتْ الألفَينِ عَدَدًا. بَيدَ أنّ تِلكَ الخَنازيرَ تَدافَعَت تَدافُعًا أسقَطَها مِن أعلى المُنحَدَرِ إلى وَسَطِ البُحَيرةِ حَيثُ غَرِقَتْ. 14 وشَهَدَ الرُّعاةُ الّذينَ كانوا هُناكَ الحادِثةَ، فنَشَروا الخَبَرَ بَينَ النّاسِ في القَريةِ والأريافِ المُجاوِرةِ فأقبَلَ النّاسُ مِن أنحاءِ تِلكَ المِنطقةِ ليَرَوا بأعيُنِهِم ما جَرى ويتحَقَّقوا مِنَ الحادِثِ، 15 فرأوا الرَّجُلَ الّذي كانَتِ الجِنُّ تَسكُنُهُ، جالِسًا بِهُدوءٍ مُعافىً لابِسًا ثِيابَهُ سَليمَ العَقلِ. فاستَبَدَّ بهِمُ الخَوفُ، 16 بَعدَ أن عَرَفوا مِن شُهودِ عيانٍ ما قامَ بِهِ سَيِّدُنا عِيسَى (سلامُهُ علينا) بِخُصوصِ الرَّجُلِ والخَنازيرِ.
17 فأخَذَ الجُمهورُ يَتوَسَّلُ إليهِ لِيَرحَلَ عَن ديارِهِم، 18 فاستَجابَ لهُم،* وذلك لِما جال في خاطر هؤلاء الوثنيين بأنّه إنّما استطاع طرد الجان بقوّة السحر. وبَينَما هو في قاربِهِ لَحِقَ بِهِ الرَّجُلُ الّذي كانَت تَسكُنُهُ الجانُّ وطَلَبَ مِنهُ الرَّحيلَ مَعَهُ، 19 ولكنّ سَيِّدَنا عِيسى أمَرَهُ بالبَقاءِ قائلاً: “اِذهَبْ إلى بَيتِكَ وأهلِكَ وابقَ مَعَهُم، وأخبِرْهُم بكُلِّ ما عَمِلَهُ اللهُ لكَ وبرَحمتِهِ عليكَ”. 20 فانطَلَقَ الرَّجلُ، يَطوفُ بَينَ أنحاءِ المُدُنِ العَشَرِ كانت المدن العشر مجموعة مدن إغريقية تدين بالديانة الوثنية (ومن بينها دمشق وعمّان) وتقع بمنطقة الضفة الشرقية من الأردن وإجمالا في ناحية بلاد الشام. مُعلِنًا ما صَنَعَهُ لَهُ سَيِّدُنا عِيسَى (سلامُهُ علينا)، فكانَ ذلِكَ مَثارَ تَعَجُّبِ النّاسِ ودَهشَتِهِم.
الصّبيّة ابنة منير والمرأة الّتي لمست ثوب المسيح
21 وانتَقَلَ سَيِّدُنا عِيسَى (سلامُهُ علينا) في القارِبِ مَرّةً أُخرى إلى الشّاطئِ الآخَرِ مِنَ البُحيرةِ، فاجتَمَعَ حَولَهُ حَشدٌ مِنَ النّاسِ كَبيرٌ على الشّاطِئِ، 22 وتَقَدَّمَ مِنهُ رَجُلٌ مِمّن يَقومونَ على بَيتِ العِبادةِ اسمُهُ مُنيرٌ، ووَقَعَ عِندَ قدَمَيهِ 23 مُتَوَسِّلاً إليهِ قائِلاً: “ابنتي الصَّغيرةُ مَريضةٌ على وَشَكِ المَوتِ! تَعالَ والمِسْها بيَدِكَ كي تُشفى!” 24 فاستجَابَ عِيسَى (سلامُهُ علينا) لِطَلَبِ الرَّجُلِ وذَهَبَ مَعَهُ، ولَحِقَ بِهِ جَمعٌ كَبيرٌ مِنَ النّاسِ يَزحَمونَهُ حَتّى تَعَسَّرَ عليهِ السَّيرُ.
25 وكانَ بَينَ الجَمعِ امرأةٌ أصابَها نَزيفٌ مُنذُ اثنَتَي عَشَرةَ سَنةً، 26 وقد عالجَها كَثيرٌ مِنَ الأطبّاءِ دونَ فائِدةٍ، وأنفَقَت في عِلاجِها كُلَّ ما تَملِكُ، ولكِنّ حالَتَها كانَت تَزدادُ سُوءًا. 27 فما كانَ مِنها، وقد سَمِعَت بِمُعجِزاتِ سَيِّدِنا عِيسَى في شِفاءِ المَرضى إلاّ أن تَسَلَّلَت بَينَ الجَمعِ، مُقتَرِبةً مِنَ خَلفِ سَيِّدِنا عِيسَى لامِسَةً طَرَفَ ثَوبِهِ بيَدِها 28 مُؤمِنةً أنّ ذلِكَ كافٍ لِشِفائِها. 29 وهكذا كانَ، إذ أَحَسَّت أنّ النَّزيفَ قد تَوَقَّفَ في الحالِ، وأدرَكَت أنّها شُفيَت مِن ذلِكَ الدّاءِ. 30 وأحَسَّ سَيِّدُنا عِيسَى في تِلكَ اللَّحظةِ بِقُوّةٍ خَرَجَت مِنهُ، فالتَفَتَ إلى الجُموعِ قائِلاً: “مَن لَمَسَ ثوبي؟” 31 فأجابَهُ أَتباعُهُ: “إنّ النّاسَ يَتَدافَعونَ حَولَكَ ويَتَزاحَمونَ عليكَ! فكَيفَ تَسألُ عَمَّن لَمَسَكَ؟!” 32 لكِنّهُ أجالَ بَصَرَهُ بَينَ النّاسِ، ليَرى الّتي لَمَسَتهُ. 33 وشَعُرَت تِلكَ المَرأةُ بِرَهبةٍ، فتَقَدّمَت مِنهُ تَرتَجِفُ، وارتَمَت أمامَهُ، مُعلِنةً أنّها هي الّتي لَمَسَت ثَوبَهُ مُخبِرةً إيّاهُ بتَفاصيلِ قِصَّتِها. 34 فتَوَجَّهَ إليها قائِلاً: “يا عَزيزَتي، إنّما إيمانُكِ بي هو الّذي شَفاكِ، فامضي في طَريقِكِ بأمانِ اللهِ مُعافاةً مِن دائِكِ”. 35 وبَينَما كانَ سَيِّدُنا عِيسَى (سلامُهُ علينا) يُحَدِّثُ تِلكَ المَرأةَ، أقبَلَ على مُنيرٍ جَمعٌ مِنَ النّاسِ كانوا في دارِهِ، يُخبِرونَهُ قائلينَ: “لم تَعُدْ حاجَةَ إلى إزعاجِ فَضيلَةِ المُعَلِّمِ، فصَغيرَتُكَ قد ماتَت!” 36 بَيدَ أنّ سَيِّدَنا عِيسَى (سلامُهُ علينا) لم يأبَهْ لِكلامِهِم، وتَوَجَّهَ إلى والِدِ البِنتِ قائلاً: “لا تَخَفْ! ما عَليكَ إلاّ أن تُؤمِنَ بي”. 37 ثُمّ تَوَجَّهَ مَعَ بَعضِ حَواريّيهِ، بُطرُسَ ويَعقوبَ ويُوحَنّا شَقيقِ يَعقوبَ، 38 إلى دارِ القائمِ على بَيتِ العِبادةِ، وعِندَ وُصولِهِم سَمِعوا العَويلَ والصُّراخَ. 39 فدَخَلَ سَيِّدُنا عِيسَى الدّارَ مُتَسائِلاً: “لِماذا هذا الضَّجيجُ والبُكاءُ، والصَّبيّةُ لم تَمُتْ، لكِنّها نائِمةٌ؟” 40 وسَخِرَ الحُضورُ مِنهُ، فأخرَجَهُم مِنَ الدّارِ، ثُمّ أَخَذَ والِدَ الصَّبيّةِ ووالدَتَها والّذينَ كانوا مَعَهُ، وتَوَجَّهَ إلى حَيثُ تَرقدُ الصَّبيّةُ. 41 وقامَ مُخاطِبًا الفَتاةَ مُمسِكًا بيَدِها: “قُومي يا صَبيّةُ!” 42 فنَهضَت في الحالِ، وقامَت تَمشي، وكانَتِ ابنةَ اثنتَي عَشَرةَ سَنة. فأخَذَتِ الدَّهشةُ مأخذَها مِنَ المُشاهِدينَ. 43 ولكِنّ عِيسَى (سلامُهُ علينا) أَمَرَهُم بِعَدَمِ إفشاءِ الخَبَرِ، وبأن يَهتَمّوا بالفَتاةِ ويُطعِموها.

*الفصل الخامس:18 وذلك لِما جال في خاطر هؤلاء الوثنيين بأنّه إنّما استطاع طرد الجان بقوّة السحر.

الفصل الخامس:20 كانت المدن العشر مجموعة مدن إغريقية تدين بالديانة الوثنية (ومن بينها دمشق وعمّان) وتقع بمنطقة الضفة الشرقية من الأردن وإجمالا في ناحية بلاد الشام.