الفصل الحادي عشر
إيمان أقليّة من بني يعقوب
وهُنا أقولُ: هل رَفَضَ اللهُ بَني يَعقوبَ الّذينَ اختارَهُم مِن بَينِ الأُممِ؟” كَلاّ! أفلا تَرونَ أنّي أنا مِن بَني يَعقوبَ، مِن نَسلِ النَّبيِّ إبراهيمَ ومِن قَبيلةِ بِنيَمينَ؟! لم يَرفُضِ اللهُ أهلَ الميثاقِ الّذينَ اختارَهُم مُنذُ القَديمِ. واذكُروا ما جاءَ في الكِتابِ عن النّبيِّ إِلياسَ* عاش النبي إلياس (عليه السّلام) 800 سنة قبل ميلاد السيد المسيح (سلامه علينا). حِينَ اشتَكَى للهِ مِمَّن ضَلَّ مِن بَني يَعقوبَ. فقالَ: “يا رَبُّ! إنّهُم قَتَلوا أنبياءَكَ، وهَدَموا كُلَّ مَكانٍ تُحرَقُ فيهِ القَرابينُ إكرامًا لكَ، وها أنا وَحدي مُخلِصٌ لكَ أمينٌ، وها هُم الآن يَسعَونَ إلى قَتلي!” فبماذا أجابَهُ اللهُ؟ هل تَذكُرونَ؟ قالَ: “إنّي اصطَفَيتُ إلى جانبِكَ سَبعةَ آلافِ شَخصٍ لم يَركَعوا للبَعلِ”. هذا الاقتباس من كتاب الملوك الأول 19: 14، 18. كان الكنعانيون والفينيقيون يعبدون بعل، الذي أُطلق عليه بعض الأسماء الأخرى في آرام (سوريا) وفي بابل، مثل هدّاد وجيوبيتر. وكان يُعتبر إله العاصفة وإله الخصوبة، ويتمّ تجسيده واقفا على ثور لأن الثور يرمز إلى الخصوبة والقوة. ويبدو أن الذين يعبدونه كانوا يمارسون الجنس كعبادة ويضحّون بالأطفال أحيانًا خلال عبادته. وهذا عَينُ ما تُبصِرونَ: يوجدُ مِن بَني يَعقوبَ بَعضُ الصّالِحينَ، اختارَهُمُ اللهُ بفَضلِهِ، لم يَرفُضوا رِسالةَ سَيِّدِنا عيسى. أقام الله ميثاقًا بينه وبين بني يعقوب (انظر التوراة، سفر التثنية 7: 6). غير أنّ تمرُّد بني يعقوب المستمرّ جعل علماءهم يميّزون بين من بقي مخلصًا لميثاق الله (وهم الذين يعرفون بمُصطلَح “البقية”) وبين الذين ارتدّوا عنه. ويؤكد بولس هنا على أن قوم الميثاق الحقيقي يتكوّن من اليهود الذين ظلّوا مخلصين لله، وهم قلّة داخل قوم بني يعقوب. نعم، اختارَهُمُ اللهُ بفَضلِهِ، لا لأنّهُم يَلتَزِمونَ بالشَّرعِ اليَهوديِّ، فلو اُخْتيروا ليَهودِيّتِهِم ما كانَ فَضلُ اللهِ فَضلاً.
فأيُّ مَعنى لكُلِّ هذا؟ لقد سَعى بَنو يَعقوبَ إلى مَرضاةِ اللهِ، ولكنّ أكثَرَهُم لم يَجِدوها، إلاّ ثُلَّةٌ مِمَّن اختارَهُم اللهُ، أمّا الباقونَ فاللهُ جَعَلَهُم مُتَعَنِّتينَ. ولقد قالَ اللهُ في التّوراةِ: “أعطاهُمُ اللهُ عَقلاً غافِلاً لا يَفقَهونَ بِهِ، وأعطاهُم عُيونًا لا يُبصِرونَ بِها، وآذانًا لا يَسمَعونَ بِها إلى يَومِنا هذا”.§ هذا الاقتباس من التوراة، سفر التثنية 29: 4. ويضيف بولس في روما 9: 31‏-32 أنّ الله قد جعلهم متعنّتين لأنهم رفضوا الإيمان بالسيّد المسيح. وجاءَ الوَحيُ إلى النَّبيِّ داودَ في الزَّبورِ: “لَيتَ وَلائمَهُم تُصبِحُ فَخًّا يَقَعونَ فيهِ، لَيتَهُم يَسقُطونَ ويَنالونَ عِقابَهُم”. 10 “ألا لَيتَ عُيونَهُم مُظلِمةٌ فلا يُبصِرونَ، ولَيتَ ظُهورَهُم تَنحني ذُلاًّ دائمًا”.* كتاب الزبور، مزمور 69: 22‏-23.
11 وهُنا أسألُ: هل يَعني جُحودُ بَني يَعقوبَ بالسَّيّدِ المَسيحِ أنّهُم لا يَرجِعونَ عن ضَلالِهِم؟ كَلاّ! غَيرَ أنّهُم حينَ رَفَضوا رِسالةَ سَيِّدِنا عيسى، انتَشَرَتِ الرِّسالةُ بَينَ غَيرِهِم مِن الأُممِ، فآمَنوا بِها وصاروا مِن النّاجينَ، وكانَ قَصدُ اللهِ بذلِكَ أن يَغارَ بَنو يَعقوبَ فيَطلُبوا النّجاةَ لأنفُسِهِم. 12 فإن كانَ عِصيانُ أكثَرَ بَني يَعقوبَ يُؤدّي إلى نُزولِ بَركةٍ عَظيمةٍ على غَيرِهِم مِن الأُممِ، فما أعظَمَ رَحمةَ اللهِ وبَرَكاتَهُ حينَ يَعودونَ إليهِ كُلُّهُم!
الله يرحم بني يعقوب
13 يا إخوتي مِن غَيرِ بَني يَعقوبَ أُلقي إليكُم خِطابي فاسمَعوني. إنّ اللهَ أرسَلَني إلى غَيرِ اليَهودِ حَواريًّا، ولقد كُنتُ برِسالتي فَخورًا مَرضيًّا، 14 حتّى أُلهِبَ الغيرةَ في بَعضِ إخوتي مِن اليَهودِ، لأجعَلَهُم يَحصلونَ على النّجاةِ، 15 ولمّا رَفَضَ اللهُ أكثَرَ بَني يَعقوبَ، رَضيَ عن ناسٍ مِن سائرِ الأُممِ وجَعَلَهُم مِن عِبادِهِ الصّالِحينَ، فنَتيجةُ تَوبةِ بَني يَعقوبَ وانضِمامِهِم إلى جَماعةِ الإيمانِ ستَكونُ أعظَمَ: إنّها العَودةُ مِن الضَّلالِ إلى الحَياةِ! هناك تفسير آخر للنص اليوناني يقول: “سيكون هذا الأمر عظيمًا مثل عظمة القيامة من بين الأموات”.
16 وإن كانَ النَّبيُّ إبراهيمُ وغَيرُهُ مِن الآباءِ مَنذورينَ لله، فذُرّيّتُهم كذلِكَ، كشأنِ قِطعةِ الخُبزِ الّتي نَجعَلُها قُربانًا لله، فإنّها تَجعَلُ كُلَّ الخُبزِ طاهِرًا مَقبولاً. وفقا لتعاليم التوراة أخذ اليهود بذور بكورة حصادهم، وصنعوا من بعض الدّقيق عجينًا ورفعوه قربانًا لله حتّى يصبح كل العجين منذورًا له تعالى (انظر التوراة، سفر العدد 15: 17‏-21). إنّ الأنبياءَ الأوّلينَ عِندَ اللهِ كانوا جُذورًا للشَّجرةِ، فإذا كانَت جُذورُها مَنذورةً، فكذلِكَ تَكونُ الفُروعُ مَنذورةً لله أيضًا. 17 أمّا بَعضُ الفُروعِ مِن شَجرةِ إبراهيمَ، وهُم مِن بَني يَعقوبَ، فقد قُطِعُوا مِن شَجرةِ الزّيتونِ، وأمّا أنتُم يا إخواني مِن غَيرِ اليَهودِ، ففُروعٌ مِن زَيتونَةٍ بَرّيّةٍ غُرسَت في الزَّيتونةِ الأصليّةِ، فأصبَحتُم تَتَنَعَّمونَ بالبَرَكاتِ المَوعودةِ للنّبيِّ إبراهيمَ وذُرّيّتِهِ، مِثلَ الفُروعِ الّتي تَتَغَذَّى مِن جُذورِ تِلكَ الزَّيتونةِ الأصليّة.§ الطريقة المألوفة هي تطعيم شجرة بريّة بغصن من شجرة أصليّة. ولكن الصورة في هذا المقطع جاءت بطريقة عكسية، حيث ورد في الآية تطعيم زيتونة أصليّة بغصن من زيتونة بريّة. وهذه الطريقة غير طبيعية، فمثل هذا التطعيم لا ينتج ثمارا عادة. أمّا بولس فكان يريد أن يشير بهذه الصورة إلى أن الله يختار الناس كما يشاء ليدخلوا أُمَّتَه، حتّى وإن كان اختياره غير متوقّع. 18 فلا تَتَفاخروا على الفُروعِ الّتي قُطِعَت، أولئكَ اليَهودِ المَنبوذِينَ. وكَيفَ تَفتَخِرونَ؟ وأنتُم لا تَحمِلونَ الجُذورَ، بل جُذورُ الشَّجرةِ هي الّتي تَحمِلُكم! 19 وقد يَقولُ قائلٌ مِنكُم: “إنّما قُطِعَتِ الفُروعُ حتّى نَكونَ مَكانَها ونُصبِحَ مِن أُمّةِ اللهِ”. 20 صَحيحٌ. قُطِعَتِ الفُروعُ لأنّهُم لا يؤمنونَ بالسَّيّدِ المَسيحِ، وإنّكُم لَباقونَ في الشَّجرةِ لأنّكم مُستَمِرّونَ في إيمانِكُم، فلا يأخذَنَّكمُ الغُرورُ، بل احتَرِسوا لأنفُسِكُم، 21 فإن لم يَرأف اللهُ بالفُروعِ الطّبيعيّةِ، فهل يَرأَفُ بِكُم إذا صِرتُم مِنَ الضّالّينَ؟
22 ألا تُلاحِظونَ أنّ اللهَ لَطيفٌ وهو شَديدُ العِقابِ؟! فاحذَروا، إنّهُ شَديدٌ على مَن رَفَضوا رسالتَهُ. لَطيفٌ مَعَكَ إن كُنتَ تَعتَصِمُ بلُطفِهِ، وإِلاّ فإنّكَ مَطرودٌ كالفَرعِ المَقطوعِ. 23 فإن عادَ بَنو يَعقوبَ عن ضَلالِهِم، أَرجَعَهمُ اللهُ إلى شَجرةِ الزّيتونِ لأنّهُ هو القادِرُ على ذلك التَّطعيمِ. 24 أمّا أنتُم، فقد قُطِعتُم مِن زَيتونةٍ برِّيّةٍ كُنتُم تَنتَمونَ إليها، وطَعَّمَكُم اللهُ في زَيتونةٍ جَديدةٍ على خِلافِ طَبيعِةِ التَّطعيمِ المألوفة، أمّا بَنو يَعقوبَ فهُم فُروعٌ طَبيعيّةٌ مِن زَيتونتِهِم الّتي يَنتَسِبونَ إليها، فما أيسَرَ أن يَعودَ المَقطوعونَ إلى شَجرتِهِم الّتي كانوا يَنتَسِبونَ إليها.
مصير بني يعقوب
25 يا إخوتي، افهَموا هذا السِّرّ، حَتّى لا تَغترّوا. أجل، إنّ مِن بَني يَعقوبَ مُتَعَنِّتينَ، ولكنّ هذا إلى فَترةٍ مَحدودةٍ، حتّى يَنضَمَّ عَدَدٌ كامِلٌ مِن غَيرِ اليَهودِ إلى أُمّةِ اللهِ. 26 وبِذلِكَ يَنجو كُلُّ مَن أصبَحَ مِن أُمّتِهِ. وهو ما جاءَ في كِتابِ النَّبيِّ أَشعيا عَن سَيِّدِنا عيسى: “إنّ المُنقِذَ سيأتي مِنَ القُدسِ ويَرُدُّ عن بَني يَعقوبَ الفَسادَ، 27 وسيَكونُ هذا ميثاقي مَعَهُم، حينَ أَمحو ذُنوبَهُم وخَطاياهُم”.* كتاب النبي أشعيا 59 : 20، 21؛ 27: 9.
28 لقد أصبَحَ أكثَرُ بَني يَعقوبَ أعداءً لبُشرى مَملكةِ السَّيّدِ المَسيحِ، وهذا لصالِحِكُم يا مَن آمَنتُم مِن بَقيّةِ الأُمم. ولكنّ اللهَ اختارَ آباءَ بَني يَعقوبَ: إِبراهيمَ وإِسحقَ ويَعقوبَ، وإنّهُ ثابِتٌ على مَحَبَّتِهِ لهُم ولِذُرّيّتِهِم، 29 لأنّ اللهَ لا يَتَراجَعُ في ما وَهَبَهُ، وهو أَمينٌ لِمَن دَعاهُ. 30 يا مَن لا تَنتَمونَ إلى اليَهودِ، لقد عَصيتُم اللهَ في الماضي، ولكنّهُ كانَ رَحيمًا بكُم عِندَما تَمَرَّدَ بَنو يَعقوبَ عليهِ، 31 وإنّهُم ما زالوا في عِصيانِهِم لله، ولكنّ رَحمتَهُ حَلَّت عليكُم حتّى تَتَفَتَّحَ عُيونُهُم، ثُمّ يَتوبونَ ويَنالونَ رَحمةَ اللهِ. 32 لقد عَصا جَميعُ النّاسِ اللهَ، فَتَرَكَهم مُكَبَّلينَ بمَعاصيهِم، فلا نَجاةَ إلاّ برَحمتِهِ.
تسبيحة بولسُ على حكمة الله
33 ما أَعظَمَ وما أغنى حِكمةَ اللهِ وعِلمَهُ! ما أَصعَبَ إِدراكَ أَحكامِهِ وفَهمَ أَعمالِهِ! 34 وجاءَ في كِتابِ النّبيِّ أَشعيا: “مَن كانَ يَعرِفُ مَقاصِدَ اللهِ؟ أو مَن كانَ مُشيرًا لهُ؟ أشعيا 40: 13. 35 أو مَن تَفَضَّلَ على اللهِ بمَعروفٍ وهو يَنتَظِرُ رَدًّا مِنهُ؟” يقتبس الحواري بولس هنا من سفر النبي أيوب 41: 11. 36 لأنّ اللهَ خالِقُ كُلِّ شيءٍ، وحافِظُ كُلِّ شَيءٍ، وإليهِ يَرجِعُ كُلُّ شيءٍ. فلتَكُن لهُ العِزَّةُ إلى الأبَدِ. آمـين.

*الفصل الحادي عشر:2 عاش النبي إلياس (عليه السّلام) 800 سنة قبل ميلاد السيد المسيح (سلامه علينا).

الفصل الحادي عشر:4 هذا الاقتباس من كتاب الملوك الأول 19: 14، 18. كان الكنعانيون والفينيقيون يعبدون بعل، الذي أُطلق عليه بعض الأسماء الأخرى في آرام (سوريا) وفي بابل، مثل هدّاد وجيوبيتر. وكان يُعتبر إله العاصفة وإله الخصوبة، ويتمّ تجسيده واقفا على ثور لأن الثور يرمز إلى الخصوبة والقوة. ويبدو أن الذين يعبدونه كانوا يمارسون الجنس كعبادة ويضحّون بالأطفال أحيانًا خلال عبادته.

الفصل الحادي عشر:5 أقام الله ميثاقًا بينه وبين بني يعقوب (انظر التوراة، سفر التثنية 7: 6). غير أنّ تمرُّد بني يعقوب المستمرّ جعل علماءهم يميّزون بين من بقي مخلصًا لميثاق الله (وهم الذين يعرفون بمُصطلَح “البقية”) وبين الذين ارتدّوا عنه. ويؤكد بولس هنا على أن قوم الميثاق الحقيقي يتكوّن من اليهود الذين ظلّوا مخلصين لله، وهم قلّة داخل قوم بني يعقوب.

§الفصل الحادي عشر:8 هذا الاقتباس من التوراة، سفر التثنية 29: 4. ويضيف بولس في روما 9: 31‏-32 أنّ الله قد جعلهم متعنّتين لأنهم رفضوا الإيمان بالسيّد المسيح.

*الفصل الحادي عشر:10 كتاب الزبور، مزمور 69: 22‏-23.

الفصل الحادي عشر:15 هناك تفسير آخر للنص اليوناني يقول: “سيكون هذا الأمر عظيمًا مثل عظمة القيامة من بين الأموات”.

الفصل الحادي عشر:16 وفقا لتعاليم التوراة أخذ اليهود بذور بكورة حصادهم، وصنعوا من بعض الدّقيق عجينًا ورفعوه قربانًا لله حتّى يصبح كل العجين منذورًا له تعالى (انظر التوراة، سفر العدد 15: 17‏-21).

§الفصل الحادي عشر:17 الطريقة المألوفة هي تطعيم شجرة بريّة بغصن من شجرة أصليّة. ولكن الصورة في هذا المقطع جاءت بطريقة عكسية، حيث ورد في الآية تطعيم زيتونة أصليّة بغصن من زيتونة بريّة. وهذه الطريقة غير طبيعية، فمثل هذا التطعيم لا ينتج ثمارا عادة. أمّا بولس فكان يريد أن يشير بهذه الصورة إلى أن الله يختار الناس كما يشاء ليدخلوا أُمَّتَه، حتّى وإن كان اختياره غير متوقّع.

*الفصل الحادي عشر:27 كتاب النبي أشعيا 59 : 20، 21؛ 27: 9.

الفصل الحادي عشر:34 أشعيا 40: 13.

الفصل الحادي عشر:35 يقتبس الحواري بولس هنا من سفر النبي أيوب 41: 11.