مدخل إلى رسالة كورنتوس الثانية
للاطّلاع على حالة مدينة كورنتوس في تلك الفترة يحسن للقارئ أن يعود إلى المدخل في رسالة كورنتوس الأولى.
يَختلفُ العلماءُ حول هذه الرسالة، ما إذا كانت في الأصل رسالة واحدة أم رسالتين كَتبَهما الحَواري بولس ثم جُمعتا لاحقا في رسالة واحدة.
وكانت سلطة الحَواري بولس موضع تشكيك عندما كتب هذه الرسالة إلى المؤمنين في كورنتوس. لقد سعى الدعاة الدجّالون من أصل يهودي إلى التشكيك في شرعية بولس باعتباره حواري السيد المسيح، وفي المقابل ادّعَوا أنّهم حواريون حقيقيون. ولم يكن سعيهم إلا لجعل المؤمنين في كورنتوس تحت سلطتِهم الخاصّة. ويبدو أنّهم يشبهون الدعاة الدجّالين المذكورين في رسالة غلاطية، وأنّهم كانوا يُحاولونَ فَرْض العاداتِ اليهوديةَ مثل الختان وشعائر الطعام على غير اليهودِ باعتبارها شرطًا للانتماء إلى جماعة الله.
لقد عارض بولس بشدّة سلوكيات المؤمنين الخاطئة في رسالة سابقة كتبها إلى أهل كورنتوس. وفي هذه الرسالة يبدو قلِقًا بشأن ردّة فعلهم تجاه تلك الرسالة السابقة، وبدا قلِقًا أيضًا بشأن التأويل الخاطئ من طرف الذين كانوا يزعمون أنهم حواريون لأنّه ألغى زيارته لهم بعد أن خطّط لها من قبل. لقد استغلّ هؤلاء الدجّالون قسوة أسلوبه في رسالته السابقة إلى أهل كورنتوس وإلغاءه لزيارته لهم لتكوين مناخ معارض بين المؤمنين ولإضعاف سلطته عليهم. فكانوا يروّجون فيما بينهم أن سلوك بولس لا يليق بحواري حقيقي للسيد المسيح. وقالوا إنّه يجب على أهل كورنتوس اتّباعهم، لأنّهم أحقُّ بالقيادة من بولس.
فضّل بولس أن يتجنّب توضيح شرعيته كحواري لأنّه كان يعتبر ذلك البيان افتخارًا ومخالفًا لتواضع السيّد المسيح (سلامه علينا).
تُمثّل طريقة الحواري المناسبة للقيادة إحدى القضايا الرئيسية في هذه الرسالةِ. فبالنسبة إلى بولس مثلاً، عندما زار أهل كورنتوس خدَمَهم دون مقابل، في حين أن الدعاة الدجّالين وبعضًا مِنْ مؤمني الطبقة الراقيةَ في كورنتوس كانوا يعتقدون أنه يجب على جماعات المؤمنين أن يدفعوا أموالاً لمعلميهم. ذلك أن الحواري الذي يكسب رزقه من حرفة، يكون عرضة لاستخفاف الناس لأن الأغنياء يحتقرون أصحاب الحرف.
كان بولس يَجْمعُ تبرّعات المؤمنين غير اليهودِ في اليونان للمؤمنين الفقراءِ في القدس. وكان يحثّ مؤمني كورنتوس على تَجديد التزامِهم بالتبرّع. إن غاية الحواري بولس من هذا العمل هي كشف حقيقة إيمانِ الذين آمنوا بالسيد المسيح من غير اليهودِ من خلال أعمالِهم، وتأكيده على وحدة جماعات المؤمنين بالسيد المسيح.
بسم الله تبارك وتعالى
رسالةُ الحَواريّ بولُس الثّانية إلى أحباب الله في كورِنْتوسَ
الفصل الأوّل
تحيّة
هذِهِ الرِّسالةُ مِن بولُس، حَواريِّ سَيِّدِنا عيسى المَسيحِ بأمرِ اللهِ، ومِن الأخِ تيموتاوي، وهي مُوَجَّهةٌ إلى جَماعةِ أحبابِ اللهِ في مَدينةِ كورنْتوس، وإلى جَميعِ عِبادِ اللهِ الصّالِحينَ في جَنوبِ اليونانِ كُلِّهِ. السَّلامُ عليكُم والرَّحمةُ مِنَ اللهِ أبينا الصَّمَدِ، ومِن سَيِّدِنا عيسى المَسيحِ (سلامُهُ علينا).
الله يقوّينا في الضّيق
تَبارَكَ اللهُ الأبُ الرَّحيمُ لِسَيِّدِنا عيسى المَسيحِ، أجل، الأبُ الرَّحمنُ الرَّحيمُ، مَنبَعُ كُلِّ فَرَجٍ على عِبادِهِ، وهو لنا صاحِبُ الفَرَج مِن كُلِّ ضِيقٍ، وبعَونِهِ تَعالى نُفَرِّجُ عن المُبتَلينَ والّذينَ يُعانونَ الضِّيقَ. وعلى قَدرِ آلامِنا في الدَّعوةِ إلى الإيمانِ بالسَّيِّدِ المَسيحِ، يُفَرِّجُ اللهُ عنّا بفَضلِهِ (سلامُهُ علينا). إنّ الضِّيقَ الّذي نَحنُ فيهِ غايتُهُ تَشجيعُكُم ونَجاتُكُم. وعِندَما يأخُذُ اللهُ بأيدينا نأخُذُ بأيديكُم، لعلَّكُم تَحتَمِلونَ بصَبرٍ الآلامَ نَفسَها الّتي نُعانيها نَحنُ أيضًا. أنتُم تَتألّمونَ كَما نَتألَّمُ، ونَحنُ على يَقينٍ أنّ اللهَ سيُفَرِّجُ عنكُم كَما يُفَرِّجُ عنّا.
إخوتي في الإيمانِ، اذكُروا الضِّيقَ الّذي أصابَني في مُقاطَعةِ آسيا،* كانت آسيا اسما لمقاطعة رومانية تُمثّل الجزء الغربي من تركيا اليوم، وكانت عاصمتها أفاسوس التي جعلها بولس - لفترة من الزمن - مقرَّه الرئيسي للدعوة إلى رسالة سيدنا عيسى في المقاطعة كلها. (انظر كورنتوس الأولى، 16: 8). إنّهُ ضِيقٌ يَفوقُ طاقَتي، وكُنتُ أحمِلُ رُوحي على كَفّي كأنّني أسيرُ نَحوَ الإعدامِ. وهذا كُلُّهُ حَتّى لا أتَوَكَّلَ على نَفسي، بَل على اللهِ الّذي يُحيي المَوتى، 10 وهو الّذي نَجّاني مِن مَوتٍ مُحَقَّقٍ، وما زالَ يُنَجّينا ونَحنُ على يَقينٍ أنّهُ سيُنَجّينا دائمًا. 11 وأنتُم تَدعَمونَني بالدُّعاءِ لي، فعِندَما يَستَجيبُ اللهُ لدُعائِكُم، يَحميني مِن الظّالِمينَ، وحينَئذٍ سيَحمَدُ اللهَ كَثيرٌ مِن النّاسِ على نَجاتي.
امتناع بولس عن زيارة أهل كورنتوس
12 إنّي لفَخورٌ وضَميري شاهِدٌ أنّي أتَصَرَّفُ مَعَ الجَميعِ، وخاصّةً مَعَكُم أنتُم، بأمانةٍ وإخلاصٍ مِن عِندِ اللهِ. وهذا السُّلوكُ لم يَصدُر عن نَفسي أو عن حِكمةٍ بَشَريّةٍ، بل صَدَرَ بفَضلِ اللهِ. 13 ورَسائلي إليكُم كانَت واضِحةً ومُوَجَّهةً دونَ غُموضٍ أو تَعتيمٍ، وكانَ بإمكانِكُم أن تَفهَموها وتُدرِكوها. وأرجو مِنكُم أن تَفهَموا عني كُلَّ شَيءٍ، 14 حَتّى وإن كُنتُم لا تَعرِفونَني كَما يَنبَغي. وعِندَما يَتَجَلّى مَولانا عيسى المَسيحِ مَلِكًا ستَفتَخِرونَ بي كَما أفتَخِرُ بكُم.
15 وكُنتُ في الماضي واثِقًا مِن ثِقتِكُم بي فعَزَمتُ أن أزورَكُم مَرَّتين، وهكذا تَستَفيدونَ في ذَهابي وإيّابي. 16 نعم، كُنتُ أنوي أن أمُرَّ بكُم وأنا في طَريقي إلى مَقْدونِيا في شِمالِ اليونانِ، وعِندَ عَودَتي أمُرُّ بكُم مِن جَديدٍ لتُساعِدوني في رِحلتي إلى مُقاطَعةِ يَهوذا في فِلَسطين، وهو ما لم يَحدُث. 17 فهَل غَيَّرتُ رأيي بِطَيشٍ أم تَكَلَّمتُ كأهلِ الدُّنيا، عِندَما أقولُ كالجاهِلِ “نعم” بَينَما أقصِدُ “لا”؟ يُعتبر كرمُ الضيافة أمرا مهمّا في العصر القديم، وكان الناس يتشرّفون باستضافة ضيف مهمّ بارز. وربما انزعج المؤمنون في كورنتوس من عدم زيارة بولس لهم واعتبروا ذلك إخلالاً بوعده وإهانة وشكًّا في كرم ضيافتهم. وحاول معارضو بولس في كورنتوس إقناع المؤمنين هناك أنه لا يمكن الوثوق ببولس لأنه متقلّب في مواقفه واستندوا في ذلك على تغيير خطّته التي وعد بها. 18 كَلاّ يا أحبابي، إنّما نَحنُ دُعاةُ اللهِ، واللهُ أمينٌ على وَعدِهِ، عَلَّمَنا ألاّ نُخلِفَ وَعدًا ولا نَخونَ عَهدًا. 19 إنّ عيسى المَسيحَ، الابنَ الرُّوحيَّ للهِ عبارة “الابن الروحي لله” الواردة هنا (أو ابن الله في ترجمات أخرى) استخدمت في كتب الأنبياء القديمة كلقب لملك بني يعقوب الذي اختاره الله. فهي لا تشير إلى الإنجاب، بل إلى العلاقة الحميمة بين سيدنا عيسى والله. فمقام سيدنا عيسى أمام الله مقام الابن البكر في الأسرة. وهو أيضا كلمة الله الأزلية التي ألقاها الله إلى مريم العذراء. الّذي دَعوناكُم للإيمانِ بِهِ، أنا وسِلواني وتيموتاوي، لم يُخلِف وَعدًا وهو صادِقٌ أمينٌ في وعودِهِ دائمًا. 20 والسَّبيلُ إلى تَحقيقِ وعودِ اللهِ نَلمَسُهُ بفَضلِ مَولانا المَسيحِ. لذا نَحنُ نَستَجيبُ لهُ ونَختِمُ دُعاءَنا بقَول “آمين”، حَتّى نُبَيِّنَ أنّنا نؤمنُ بسَيِّدِنا عيسى المَوعودِ، إكرامًا لمَجدِ اللهِ. 21 هو اللهُ الّذي أنعَمَ علينا جَميعًا حَتّى نَكونَ بمَولانا المَسيحِ راسِخينَ في الإيمانِ، وهو الّذي اختارَنا 22 وخَتَمَنا بخاتِمِهِ، فزَرَعَ رُوحَهُ تَقَدَّسَ وتَعالى في قُلوبِنا ضَمانًا مِنهُ لوَفائِهِ لنا بكُلِّ وعودِهِ.§ ساد عند أغلب اليهود آنذاك اعتقاد بحلول روح الله بقوّة في نهاية هذه الدنيا (انظر مثلاً كتاب النبي حزقيال (ذي الكفل)، 39: 28‏-29؛ وكتاب النبي يوئيل، 2: 28). لقد حظي أتباع المسيح الأوائل بحلول روح الله، فرأوا أنّهم يعيشون الأيام الأخيرة لهذه الدنيا. ووصف بولس هبة روح الله للمؤمنين بعربون (أي دفعة أوليّة) وهو بمثابة لمحة عن حياة الآخرة. 23 ويَشهَدُ اللهُ أنّي ما امتَنَعتُ عن الرُّجوعِ إلى كورنتوسَ إلا شَفَقةً عليكُم حَتّى لا أُعاتِبَكُم عِتابًا شَديدًا. 24 وما قَصدي في ذلِكَ أن أتَشَدَّدَ عليكُم في طَريقةِ إيمانِكُم، ولكنّ هَدَفَنا هو فَرَحُكُم، ونَحنُ نَعمَلُ مَعًا لفائدتِكُم وصَلاحِكُم. لأنّكُم لا تَثبُتونَ إلا بالإيمانِ الّذي في قُلوبِكُم.

*الفصل الأوّل:8 كانت آسيا اسما لمقاطعة رومانية تُمثّل الجزء الغربي من تركيا اليوم، وكانت عاصمتها أفاسوس التي جعلها بولس - لفترة من الزمن - مقرَّه الرئيسي للدعوة إلى رسالة سيدنا عيسى في المقاطعة كلها. (انظر كورنتوس الأولى، 16: 8).

الفصل الأوّل:17 يُعتبر كرمُ الضيافة أمرا مهمّا في العصر القديم، وكان الناس يتشرّفون باستضافة ضيف مهمّ بارز. وربما انزعج المؤمنون في كورنتوس من عدم زيارة بولس لهم واعتبروا ذلك إخلالاً بوعده وإهانة وشكًّا في كرم ضيافتهم. وحاول معارضو بولس في كورنتوس إقناع المؤمنين هناك أنه لا يمكن الوثوق ببولس لأنه متقلّب في مواقفه واستندوا في ذلك على تغيير خطّته التي وعد بها.

الفصل الأوّل:19 عبارة “الابن الروحي لله” الواردة هنا (أو ابن الله في ترجمات أخرى) استخدمت في كتب الأنبياء القديمة كلقب لملك بني يعقوب الذي اختاره الله. فهي لا تشير إلى الإنجاب، بل إلى العلاقة الحميمة بين سيدنا عيسى والله. فمقام سيدنا عيسى أمام الله مقام الابن البكر في الأسرة. وهو أيضا كلمة الله الأزلية التي ألقاها الله إلى مريم العذراء.

§الفصل الأوّل:22 ساد عند أغلب اليهود آنذاك اعتقاد بحلول روح الله بقوّة في نهاية هذه الدنيا (انظر مثلاً كتاب النبي حزقيال (ذي الكفل)، 39: 28‏-29؛ وكتاب النبي يوئيل، 2: 28). لقد حظي أتباع المسيح الأوائل بحلول روح الله، فرأوا أنّهم يعيشون الأيام الأخيرة لهذه الدنيا. ووصف بولس هبة روح الله للمؤمنين بعربون (أي دفعة أوليّة) وهو بمثابة لمحة عن حياة الآخرة.