الفصل الثّامن عشر
مَثَل الأرملة والقاضي
وضَرَبَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) لحَواريّيهِ مَثَلاً يُبَيِّنُ لهُم فيهِ وُجوبَ المُواظَبةِ على الدُّعاءِ دونَ كَلَلٍ أو مَلَلٍ فقالَ: “كانَ في إحدى المُدُنِ قاضٍ لا يَخافُ اللهَ ولا يَهابُ النّاسَ، وكانَت في تِلكَ المَدينةِ أرمَلةٌ تأتي بصورةٍ مُستَمِرّةٍ إلى ذلِكَ القاضي مُلِحّةً عليهِ بالقَولِ: “ليتَكَ تُنصِفُني مِن الّذي ظَلَمَني”. ولكنّ القاضي ظَلَّ مُستَمِرًّا في رَفضِ طَلَبِها، إلى أن أذعَنَ لها أخيرًا قائلاً في نَفسِهِ: “إنّي حَقًا لا أخافُ اللهَ ولا أهابُ النّاسَ، ولكنْ هذِهِ المَرأةُ تُزعِجُني، فسأستَجيبُ لطَلَبِها فأنصِفَها وأنتَهي مِن إزعاجِها”.
وهُنا قالَ (سلامُهُ علينا): “فلتَكُنْ لكُم في قِصّةِ القاضي الظالِمِ عِبرةٌ، فإذا كانَ الأمرُ كذلِكَ مَعَ هذا القاضي الظالِمِ، فكَيفَ باللهِ العادِلِ الرَّحيمِ، ألا يُنصِفُ أولياءَهُ المُختارينَ حينَ يُلِحّونَ بِدُعائِهِم مُتَضَرِّعينَ إليهِ ليلَ نَهارَ؟ وهل يُمهِلُ في الإجابةِ؟ كَلاّ، بل ستَكونُ استِجابتُهُ سَريعةً فيَنصُرُهُم! ورَغمَ ذلِكَ، فهل سيَجِدُ سَيِّدُ البَشَرِ على الأرضِ مَن يؤمنُ بِهِ عِندَ مَجيئهِ؟”
مَثَل المتشدّد وجابي الضّرائب
ثُمّ ضَرَبَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) مَثَلاً بشأنِ مَن يَعتَقِدونَ أنفُسَهُم صالِحينَ، ويَنظُرونَ بتَعالٍ إلى الآخَرينَ، 10 فقالَ: “تَوَجَّهَ رَجُلانِ إلى حَرَمِ بَيتِ اللهِ لإقامةِ الصَّلاةِ. وكانَ أحَدُهُما مِن طائفةِ المُتَشَدِّدينَ، والآخَرُ أحَدَ جامِعي الضَّرائبِ للرُّومانِ. 11 وهُناكَ حَدَّثَ المُتَشَدِّدُ نَفسَهُ قائلاً: “اللّهُمَّ، أَحمَدُكَ لأنّكَ لم تَجعَلني مِثلَ الجَشعينَ والمُفسِدينَ والزُناةِ مِن سائرِ النّاسِ، أو كَجَابي الضَّرائبِ الواقِفِ هُناكَ، 12 فإني أصومُ يَومَين أسبوعيًّا، وأُؤدّي زَكاةَ العُشرِ عن كُلِّ دَخلي”.* فرض الله على اليهود في التوراة إعطاء العشر من دخلهم لله، وقد حافظ المتشدّدون على تطبيق ذلك الحكم. 13 أمّا جابي الضَّرائبِ فقد وَقَفَ في الصَّفِّ الأخيرِ خاشِعًا ببَصَرِهِ خَجِلاً مِن اللهِ. ثُمّ أخَذَ يَدعو اللهَ وهو يَضرِبُ على صَدرِهِ بيَدَيهِ تأسّيًا وحُزنًا قائلاً: “رَحمَتُكَ رَبّي إنّي لمِن الضّالّينَ”. 14 يا أحبابي لقد تَقَبَّلَ اللهُ دُعاءَ جابي الضَّرائبِ فرَضِيَ عَنهُ، وأعرَضَ عن الآخَر. إنّ كُلَّ مَن رَفَعَ مِن قَدرِ نَفسِهِ وَضَعَهُ اللهُ، وكُلّ مَن تَواضَعَ وقَلّلَ مِن شأنِ نَفسِهِ رَفَعَهُ اللهُ”.
عيسى (سلامُهُ علينا) يبارك الأطفال
15 وقَدَّمَ النّاسُ إليهِ (سلامُهُ علينا) أثناءَ ذلِكَ أطفالَهُم ليَلمُسَهُم فيُبارِكَهُم، فنَهَرَهُم أتباعُهُ (سلامُهُ علينا) وأبعَدوهُم، 16 ولكنّهُ (سلامُهُ علينا) دَعاهُم إليهِ قائلاً: “اترُكوا الأطفالَ يأتونَ إليّ ولا تَمنَعُوهُم، لأنّ أهلَ المَملَكةِ الرَّبّانيّةِ مِثلُ هؤلاءِ الأطفالِ، 17 والحَقَّ أقولُ لكُم: إنّ الدُّخولَ إلى مَملَكةِ اللهِ لا يَكونُ إلاّ ببَساطةِ الأطفالِ الّذينَ لا يَنشَغِلونَ بالمَراتِبِ الدُّنيويّةِ”.
من الّذي يدخل المملكة الرّبّانيّة؟
18 وجاءَ إلى سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) رَجُلٌ ذو شأنٍ فسألَهُ قائلاً: “أيُّها المُعَلِّمُ الصّالِحُ، ما العَمَلُ الّذي عليَّ القيامُ بِهِ للفَوزِ بدارِ الخُلدِ؟” 19 فأجابَهُ (سلامُهُ علينا) قائلاً: “لِماذا دَعَوتَني صالِحًا؟! ألا تَدري أنّ الصّالِحَ الحقَّ هو اللهُ الواحِدُ؟! 20 وأنتَ تَعلَمُ بما وَصَّى اللهُ بِهِ النَّبيَّ موسى: لا تَزنِ، ولا تَقتُلْ، ولا تَسرِقْ، ولا تَشهَدْ شَهادةَ الزُّورِ، وأكرِمْ أباكَ وأُمَّكَ نِعمَ الإكرامِ”. 21 فأجابَهُ الرَّجُلُ: “أيُّها المُعَلِّمُ، إنّي لأعمَلُ بهذِهِ الوَصايا كُلِّها مُنذُ صِباي”. 22 فقالَ عيسى (سلامُهُ علينا): “بَقِيَ أمرٌ يُعوِزُكَ تَنفيذُهُ: اِذهَبْ، وبِعْ كُلَّ مُمتَلَكاتِكَ وتَصَدُّقْ بثمَنِها على الفُقَراءِ، فسيَكونُ لكَ بذلِكَ كَنزٌ عَظيمٌ عِندَ اللهِ، ثُمّ تَعالَ إليَّ واتبَعني”. 23 فحَزِنَ الرَّجُلُ عِندَ سَماعِهِ ذلِكَ حُزنًا شَديدًا، لأنّهُ كانَ ذا ثَروةٍ طائلةٍ.
24 وغادَرَ الرَّجُلُ المَجلِسَ، فالتَفَتَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) إلى أتباعِهِ قائلاً: “كَم هو عَسيرٌ أن يَدخُلَ الأغنياءُ المَملَكةَ الرَّبّانيّةَ! 25 وأقولُ إنّ دُخولَ المُتّكِلِ على المالِ لَصَعبٌ صُعوبةَ دُخولِ الجَمَلِ في سُمِّ الخَيّاطِ (ثقب الإبرة)!” 26 فقالَ الحاضِرونَ: “فمَن هم النّاجونَ إذن؟!” 27 فأجابَهُم (سلامُهُ علينا): “ما تَعجِزونَ عَنهُ هو بيَدِ اللهِ الّذي هو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ”.
28 وقالَ بُطرُسُ الصَّخرُ مُتَحَمِّسًا: “ها قد تَرَكنا كُلَّ شَيءٍ وَراءَنا واتّبعنَاكَ!” 29 فأجابَهُ (سلامُهُ علينا): “الحقّ أقولُ لكُم: كُلُّ مَن تَخَلّى عن بَيتِهِ أو امرأتِهِ أو إخوانِهِ أو والدَيهِ أو أولادِهِ، مِن أجلِ المَملَكةِ الرَّبّانيّةِ، 30 كانَ لهُ أضعافُ تِلكَ مِن اللهِ في الدُّنيا، وسيَكونُ لهُ النَّعيمُ في الآخِرةِ”.
إعلانه (سلامُهُ علينا) الأخير عن موته وبعثه
31 ثُمّ اختَلى (سلامُهُ علينا) بحَواريّيهِ الاثنَي عَشَرَ ليَقولَ لهُم: “إنّنا صاعِدونَ إلى القُدسِ وفيها سيُنَفَّذُ وَعدُ اللهِ في سَيِّدِ البَشَرِ كَما جاءَ في كُتُبِ الأنبياءِ، 32 فيُسَلِّمُهُ المَجلِسُ الأعلى إلى الوَثَنيّينَ فيَستَهزِئونَ بِهِ ويَشتُمونَهُ ويَبصُقونَ عليهِ، 33 ثُمّ يَجلِدونَهُ ويَقتُلونَهُ، إلاّ أنّهُ في اليومِ الثّالثِ يُبعَثُ حيًّا!” 34 ولم يَفقَهْ الحَواريّونَ كَلامَهُ، بل ظَلَّ مَعناهُ مَحجوبًا عن إدراكِهِم فعَجَزوا عن فَهمِهِ.
شفاء الأعمى
35 وعِندَ اقتِرابِ سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) ومَن كانَ برِفقتِهِ مِن مَدينةِ أريحا، صادَفَ وجودُ مُتَسَوّلٍ أعمى على جانبِ الطَّريقِ، 36 وعِندَما تَناهَى إلى سَمعِ الأعمى ضَجيجُ مُرورِ الحُشودِ سألَ مَن حَولَهُ عَمّا يَجري. 37 فأخبَروهُ قائلينَ: “هذا عيسى النّاصريّ يَمُرُّ مِن هذا الطَّريقِ”. 38 فصَرَخَ قائلاً: “رُحماكَ يا عيسى، يا وَريثَ مَملَكةِ النَّبيِّ داودَ!” كان شعب بني يعقوب يتوقّعون أنّ المسيح المنتظر سوف يكون من عائلة يَسّى، والد النبي داود. وذلك كما جاء في نبوّة النبي أشعيا (أشعيا 11: 1) 39 فزَجَرَهُ مَن كانوا في طَليعةِ المَوكِبِ، وأمَروهُ بالسُّكوتِ. إلاّ أنّ الكَفيفَ أخَذَ يَصيحُ بصَوتٍ أعلى قائلاً: “رُحماكَ أيُّها المَلِكُ، يا صاحِبَ عَرشِ داودَ!” 40 ولمّا سَمِعَهُ (سلامُهُ علينا) تَوَقّفَ وأمَرَ بإحضارِهِ. وعِندَما اقتَرَبَ مِنهُ سألَهُ: 41 “ماذا تُريدُ مِنّي أن أفعَلَ لكَ؟!” فأجابَهُ الأعمى: “أُريدُ أن أُبصِرَ، يا مَولاي!” 42 فقالَ لهُ (سلامُهُ علينا): “لِيَكُنْ لكَ ذلِكَ، فإيمانُكَ بي قد شَفاكَ”. 43 وهكذا ارتَدَّ بَصَرُ الأعمى في الحالِ، فأخَذَ يُسَبِّحُ اللهَ وهو يَتبَعُ مَولاهُ. وأحاطَ بِهِ النّاسُ وقد أخَذوا يُسَبِّحونَ للهِ ويُمَجِّدونَ عَظَمتَهُ بَعدَ أن شاهَدوا ذلكَ.

*الفصل الثّامن عشر:12 فرض الله على اليهود في التوراة إعطاء العشر من دخلهم لله، وقد حافظ المتشدّدون على تطبيق ذلك الحكم.

الفصل الثّامن عشر:38 كان شعب بني يعقوب يتوقّعون أنّ المسيح المنتظر سوف يكون من عائلة يَسّى، والد النبي داود. وذلك كما جاء في نبوّة النبي أشعيا (أشعيا 11: 1)