الفصل التّاسع عشر
عيسى (سلامُهُ علينا) وزكيّ
ودَخَلَ (سلامُهُ علينا) أريحا. وكانَ بها رَجُلٌ اسمُهُ زَكِيٌّ،* هذا هو المعنى العربي للاسم العبري الأصلي (زكّاي) ومعناه “الطاهر” ثمّ صار اسمه باللغة اليونانية التي كُتب بها هذا الوحي (زكيوس). وهو مِن كِبارِ جُباةِ الضَّرائبِ، شَديدُ الثَّراءِ. وكانَ يُحاوِلُ رُؤيةَ سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) مِن بَينَ الحُشودِ، ولكنّهُ لم يَستَطِع لكَثرةِ الزِّحامِ ولِقِصَرِ قامتِهِ. وعِندَما أوشَكَ عيسى (سلامُهُ علينا) أن يَمُرَّ بقُربِ شَجَرةِ جُمَّيزٍ، أسرَعَ زَكيٌّ إليها وتَسَلّقَها فرآهُ (سلامُهُ علينا) فقالَ لهُ: “أنا ضَيفُكَ اللّيلةَ، يا زَكيٌّ، فانزِلْ بِسُرعة!” فاستَجابَ الرَّجُلُ في الحالِ واستَقبَلَهُ بسُرورٍ، مِمّا أثارَ غَيظَ بَعضِ الحاضِرينَ فقالوا مُتَذَمِّرينَ: “لقد اختارَ الحُلولَ ضَيفًا عِندَ رَجُلٍ مِن الضّالّينَ!” وسَمِعَ زَكيٌّ ذلِكَ الكَلامَ فقامَ وقالَ لعيسى (سلامُهُ علينا) أمامَ الجَميعِ: “يا سَيِّدي، أُعلِنُ أمامَكَ تَوزيعَ نِصفِ مُمتَلَكاتي على المَساكينِ، وسأُعوِّضُ لِمَن اغتَصَبتُ مالَهُ بحُجّةِ الضَّرائبِ أربَعةَ أضعافِ ما أخَذتُهُ مِنهُ!” كان عند كلٍّ من الرومان واليهود قانون يفرض على الشخص التعويض عن كلّ ما أخذ عن طريق السرقة أو الغشّ، مضافًا إليه غرامة. كما جاء في التوراة أنّ الحدّ الأقصى لِما يُدفع هو أربعة أضعاف القيمة المسروقة (سفر الخروج 1‏:22). فقالَ لهُ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا): “اليَومَ فازَ أهلُ هذا البَيتِ بالنّجاةِ، لأنّ هذا الرَّجُلَ هو أيضًا مِن ذُرّيّةِ إبراهيمَ، وعد الله بمباركة النبي إبراهيم (عليه السلام) وسلالته، ومع أنّ عمل هذا الجابي كان محلّ احتقار الحشود، فما زال باستطاعته التوبة والحصول على تلك البركة التي وعد الله بها إبراهيم وذريّته. 10 فقد جاءَ سَيِّدُ البَشَرِ يَبحَثُ عن مِثل هؤلاءِ الضّالّين لِيُنقِذَهُم إلى الأبدِ”.
مَثَلُ الدّنانير الذّهبية
11 وكانَت أسماعُ الحُشودِ مُتَّجِهةً إلى كُلِّ ما كانَ يَخرُجُ مِن فَمِهِ (سلامُهُ علينا) مِن كَلامٍ. ولمّا ازدادَ مِن بَيتِ المَقدِس قُربًا، ساقَ مَثَلاً إلى كُلِّ مَن كانَ يَظُنُّ أنّ ظُهورَ المَملَكةِ الرَّبّانيّةِ سيَكونُ في الحالِ،§ كان بعض اليهود يعتقدون أنّ المسيح المنتظر عند قدومه لتأسيس مملكة الله، سوف يقهر الرومانَ ويعيد لبني إسرائيل أرضَهم وحريّتهم. وكان آخرون من اليهود يعتقدون أنّ العالم بأسره سيتغيّر عند تأسيس المملكة الربّانيّة. 12 فقالَ: “كانَ على أحَدِ الأُمراءِ أن يُسافِرَ إِلى بَلَدٍ بَعيدٍ، إلى عاصِمةِ الإمبِراطوريّةِ، وذلِكَ لِيُتَوِّجَهُ القَيصرُ مَلِكًا ثُمّ يَعودُ إلى بَلَدِهِ. 13 وقَبلَ مُغادَرتِهِ دَعا عَشَرةً مِن وُكلائِهِ وسَلَّمَ كُلَّ واحدٍ مِنهُم دينارًا ذَهَبيًا قائلاً: “تاجِروا بهذا المالِ إلى حينِ عَودتي”.
14 وكانَ شَعبُهُ يَكرَهونَهُ، فأرسَلوا وَفدًا في إثرِهِ إلى الإمبِراطورِ قَيصرَ ليُخبِرُوهُ قائلينَ: “لَيسَ لنا رَغبةٌ في أن يُتَوَّجَ هذا الرَّجُلُ مَلِكًا علينا”. 15 وعلى الرَّغمِ مِن ذلِكَ، فإنّ القَيصرَ وَلاّهُ عليهِم. وعِندَما عادَ استَدعى مَن وَكَّلَهُم بالتِّجارةِ بمالِهِ مِن وُكلائِهِ، لِيَرى مِقدارَ مَكسَبِ كُلِّ واحدٍ مِنهُم، 16 فجاءَ الأوّلُ وقالَ: “يا مَولايَ، رَبِحَ دينارُكَ عَشَرةَ دنانيرَ!” 17 فأجابَهُ المَلِكُ: “نِعمَ الخادِمُ الأمينُ أنتَ! اُؤتُمِنتَ على القَليلِ، فلَكَ الوِلايةُ على عَشَرِ مُدُنٍ في مَملَكتي”. 18 وجاءَ الرَّجُلُ الثّاني وقالَ: “يا مَولاي، لقد بَلَغَ رِبحُ دينارِكَ مِقدارَ خَمسةِ دنانير”. 19 فأجابَهُ: “وكُن أنتَ واليًا على خَمسِ مُدُنٍ في مَملَكتي”. 20 أمّا الرَّجُلُ الثّالثُ فقالَ لهُ: “يا مَولايَ، هُوَ ذا دينارُكَ خَبَّأتُه لكَ حِفاظًا عليهِ، 21 فقد خِفتُ مِنكَ، لأنّكَ رَجُلٌ قاسٍ، تَربَحُ مِن تَعبِ غَيرِكَ، وتَحصُدُ ما لم تَزرَعْ”. 22 فأجابَهُ المَلِكُ غاضِبًا: “أيُّها الخادِمُ الحَقيرُ! لقد ظَنَنتَ أنّي شَديدُ القَسوةِ وأنّي آخُذُ ما لَيسَ لي، وأحصُدُ مِن حَيثُ لم أزرَعْ، 23 إنْ كانَ الأمرُ كذلِكَ، فلِمَ لم تَضَعْ مالي عِندَ الصَّيارفةِ لأستَرِدَّهُ حين عَودتي وقد أُضيفَ إليهِ الرِّبا؟” 24 وتَوَجَّهَ إلى الحاضِرينَ آمِرًا: “خُذوا مِنهُ الدِّينارَ، وأعطُوهُ لِمن بَلَغَ رِبحُهُ عَشَرةَ دنانير!” 25 فأجابوهُ قائلينَ: “يا مَولانا، إنّ لذلِكَ الوَكيلِ ما يَكفيهِ مِن المالِ وقد صارَ دينارُهُ عَشَرةً!” 26 فقالَ المَلِكُ: “اعلَموا أنّي أُكافِىءُ العامِلينَ بالزّيادةِ، ولا أُكافِئُ المُتَقاعِسينَ إلاّ خُسرانًا. 27 أمّا أعدائي مِمّن رَفَضوا تَتويجي مَلِكًا عليهِم، فأَحضِروهُم إليّ، وقوموا بإعدامِهِم جَميعًا أمامي”.* لقد أخذ السيّد المسيح (سلامُهُ علينا) هذا المثل من قصّة تتويج هيرودس الكبير.
القدس تستقبل عيسى (سلامُهُ علينا)
28 وبَعدَ أن قَصَّ (سلامُهُ علينا) تِلكَ القِصّةَ على الحُضورِ، سارَ مُنطَلِقًا على رأسِ أتباعِهِ مُتابِعًا حَجَّهُ إلى بَيتِ المَقدِس، توجّه سيدنا المسيح إلى القدس مع بعض الحجّاج بمناسبة عيد الفصح. 29 وعِندَ اقتِرابِهِ مِن قَريتَيْ بَيتِ فَجَّ وبَيتِ عَنْيا عِندَ جَبَلِ الزَّيتونِ بقُربِ القُدسِ، أرسَلَ اثنَينِ مِن أتباعِهِ 30 قائلاً: “سِيرا إلى القَريةِ الّتي تَرَيانِها أمامَكُما، وستَجِدانِ جَحشًا مَربوطًا لم يَعتَلِهِ أحَدٌ مِن قَبلُ، فحُلاّ رِباطَهُ وأحضِراهُ إلى هُنا، 31 وإن سألَكُما أحَدٌ عَمّا فَعَلتُماهُ، فقولا لهُ: “مَولانا بحاجةٍ إليهِ”.”
32 فذَهَبَ التّابعانِ ووَجَدا الجَحشَ كَما وَصَفَهُ لهُما (سلامُهُ علينا)، 33 وعِندَ قيامِهِما بحَلِّ رِباطِ الجَحشِ قالَ لهُما أصحابُهُ: “لِماذا تَقومانِ بحَلِّ رِباطِ جَحشِنا؟” 34 فقالا: “مَولانا يَحتاجُ إليهِ”. 35 ومَضَيا عائدَين بِهِ إلى مَولاهُم. وألقَى أتباعُهُ (سلامُهُ علينا) ثِيابَهُم على ظَهرِهِ ثُمّ اعتَلاهُ عيسى (سلامُهُ علينا). 36 فأخَذَ النّاسُ يَفرُشونَ ثيابَهُم على طَريقِهِ تَقديرًا لهُ واحتِرامًا. 37 وعِندَ دُنوِّهُ مِن مُنحَدَرِ جَبَلِ الزَّيتونِ، أخَذَت كُلُّ الحُشودِ مِن أتباعِهِ بالتَّسبيحِ للهِ فَرَحًا، مُتَحَدِّثينَ بصَوتٍ مُرتَفِعٍ عن كُلِّ المُعجِزاتِ الّتي شاهَدُوها، 38 وكانوا يَقولونَ: “تَبارَكَ المَلِكُ القادِمُ باسمِ رَبِّ العالَمينَ!” “السَّلامُ في السَّماءِ والجَلالُ للهِ في عُلاه!” 39 فالتَفَتَ إلى سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) بَعضُ المُتَشَدِّدينَ مِمّن كانوا بَينَ الجُموعِ قائلينَ: “يا فَضيلةَ المُعَلِّمُ، اُزجُرْ أتباعَكَ عن هذا الكَلامِ!” 40 فأجابَهُم (سلامُهُ علينا): “لئن سَكَتَ هؤلاءِ عَن هذا الكَلامِ هَتَفَت بِهِ الحِجارةُ عاليًا”.
41 وأشرَفَ (سلامُهُ علينا) على مَدينةِ القُدسِ، فأَجهَشَ بالبُكاءِ عليها 42 قائلاً: “لَيتَكِ تَعرِفينَ، ولو في يَومِكِ هذا، ما فيهِ سَلامُكَ ولكنّ السّلامَ أصبَحَ عَنكِ مَحجوبًا! 43 وسيأتي عليكِ زَمَنٌ فيهِ يَضَعُ أعداؤكِ حَولَكِ سِياجًا يُحيطونَكِ بِهِ، فيُحاصِرونَكِ مِن كُلِّ جِهةٍ، 44 ويَسحَقونَكِ وسُكّانَكِ، ولا يَترُكونَ فيكِ حَجَرًا على حَجَرٍ. لأنّكَ أعرَضتِ عن رِضَى اللهِ يَومَ كانَ رِضاهُ قَريبًا مِنكِ”. تحقّقت نبوّة سيّدنا المسيح تلك. ففي العام 70 للميلاد، أخمد الرومان ثورة اليهود في القدس، وقاموا بتدمير أسوار عديدة في المدينة، كما قاموا بتدمير بيت الله كليّا، آخذين معظم السكّان لبيعهم باعتبارهم عبيدا.
طرد التّجار من الحرم
45 ثُمّ دَخَلَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) حَرَمَ بَيتِ اللهِ، وشَرَعَ بطَردِ الصَّيارفةِ والباعةِ مِن المَكانِ 46 قائلاً: “لقد أنزَلَ اللهُ في كِتابِ النَّبيِّ أَشعيا قَولَهُ تَعالى: “إنّي أقَمتُ بَيتيَ مُصَلًّى للنّاسِ،” ولكنّكُم جَعَلتُموهُ وَكرًا للُّصوصِ!”
47 وكانَ (سلامُهُ علينا) يأتي ليُعَلِّمَ النّاسَ في الحَرَمِ الشَّريفِ يَوميًّا. وأرادَ كِبارُ الأحبارِ والفُقَهاءِ والأعيانٍ قَتلَهُ،§ خاف هؤلاء الرجال من سيّدنا عيسى فإذا كان بالفعل هو المسيح، الملك المنقذ، الذي سيقود قوم ميثاق الله، فمعنى ذلك أنّ سلطتهم وقوّتهم على وشَكِ الزوال. 48 ولكنّهُم لم يَجِدوا إلى ذلِكَ سَبيلاً، فقد كانَت الحُشودُ تَتَلَقَّفُ كَلامَهُ بحَماسةٍ ولا تُفارِقُهُ طَرفةَ عَينٍ.

*الفصل التّاسع عشر:2 هذا هو المعنى العربي للاسم العبري الأصلي (زكّاي) ومعناه “الطاهر” ثمّ صار اسمه باللغة اليونانية التي كُتب بها هذا الوحي (زكيوس).

الفصل التّاسع عشر:8 كان عند كلٍّ من الرومان واليهود قانون يفرض على الشخص التعويض عن كلّ ما أخذ عن طريق السرقة أو الغشّ، مضافًا إليه غرامة. كما جاء في التوراة أنّ الحدّ الأقصى لِما يُدفع هو أربعة أضعاف القيمة المسروقة (سفر الخروج 1‏:22).

الفصل التّاسع عشر:9 وعد الله بمباركة النبي إبراهيم (عليه السلام) وسلالته، ومع أنّ عمل هذا الجابي كان محلّ احتقار الحشود، فما زال باستطاعته التوبة والحصول على تلك البركة التي وعد الله بها إبراهيم وذريّته.

§الفصل التّاسع عشر:11 كان بعض اليهود يعتقدون أنّ المسيح المنتظر عند قدومه لتأسيس مملكة الله، سوف يقهر الرومانَ ويعيد لبني إسرائيل أرضَهم وحريّتهم. وكان آخرون من اليهود يعتقدون أنّ العالم بأسره سيتغيّر عند تأسيس المملكة الربّانيّة.

*الفصل التّاسع عشر:27 لقد أخذ السيّد المسيح (سلامُهُ علينا) هذا المثل من قصّة تتويج هيرودس الكبير.

الفصل التّاسع عشر:28 توجّه سيدنا المسيح إلى القدس مع بعض الحجّاج بمناسبة عيد الفصح.

الفصل التّاسع عشر:44 تحقّقت نبوّة سيّدنا المسيح تلك. ففي العام 70 للميلاد، أخمد الرومان ثورة اليهود في القدس، وقاموا بتدمير أسوار عديدة في المدينة، كما قاموا بتدمير بيت الله كليّا، آخذين معظم السكّان لبيعهم باعتبارهم عبيدا.

§الفصل التّاسع عشر:47 خاف هؤلاء الرجال من سيّدنا عيسى فإذا كان بالفعل هو المسيح، الملك المنقذ، الذي سيقود قوم ميثاق الله، فمعنى ذلك أنّ سلطتهم وقوّتهم على وشَكِ الزوال.