الفصل الثّاني عشر
مسألة يوم السّبت
وحَدَثَ في تِلكَ الفَترةِ أن مَرَّ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) وأتباعُهُ وَسَطَ حُقولِ القَمحِ وصادَفَ ذلِكَ يومَ سَبتٍ، وقد أخَذَ الجوعُ مِنهُم مأخَذَهُ، فبَدأ أتباعُهُ يُقَلِّعونَ سَنابِلَ القَمحِ ويأكلونَها. ورآهُم المُتَشَدِّدونَ فقالوا لعيسى (سلامُهُ علينا): “ألا تَرى أتباعَكَ يَحصُدونَ يومَ السَّبتِ، وهذا في شَريعتِنا حَرامٌ!”* انظر الهامش في مرقس 2: 24. فرَدَّ عليهِم قائلاً: “ألم تَقرؤوا ما فَعَلَ النَّبيُّ داودُ هو وأصحابُهُ عِندَما استبَدَّ بِهِم الجوعُ؟ لقد دَخَلَ المَكانَ المُقَدَّسَ في بَيتِ اللهِ، وأخَذَ الخُبزَ الّذي قُدِّمَ لوَجهِ اللهِ، ذلِكَ الخُبزَ الّذي لا يَحِلّ أكلُهُ إلاّ للأحبارِ مِن رِجالِ الدِّينِ، أكَلَهُ هو وأصحابُهُ ليَسُدّوا رَمَقَهُم. أما قَرأتُم في التَّوراةِ أيضًا أنّ الأحبارَ يَنتَهِكونَ حُرمةَ السَّبتِ عِندَما يَعمَلونَ في حَرَم بَيتِ اللهِ، ولا يُعتَبَرونَ مَعَ ذلكَ مِن الآثمينَ؟ أقولُ لكُم: لقد حانَ الوقتُ لحُلولِ ما هو أعظَمُ شأنًا مِن هَيكلِ بَيتِ اللهِ! لقد قالَ اللهُ على لِسانِ النَّبيِّ هوشع: “إنّ التَّراحُمَ بَينَ النّاسِ أفضَلُ عِندي مِن تَقديمِ الأضاحي وأداءِ الفَرائضِ”. ولو أنّكُم أدرَكتُم مَعنى هذِهِ الآيةِ، ما حَكَمتُم باطِلاً على أتباعي الّذينَ لم يَرتَكِبوا ذَنبًا. فلتَعلَموا أنّ لسَيّدِ البَشَرِ سُلطانًا حتّى على قَوانينِ يومِ السَّبتِ!”
عيسى (سلامُهُ علينا) يشفي المرضى يوم السّبت
ومَضى (سلامُهُ علينا) نَحوَ بَيتِ العِبادةِ 10 حَيثُ وَجَدَ رَجُلاً يَشكو شَلَلاً في يدِهِ. وسَعى بَعضُ المُتَشَدِّدينَ إلى إيقاعِهِ (سلامُهُ علينا) في تُهمةِ الخُروجِ عن تَعاليمِهِم بشأنِ ذلِكَ اليومِ المُقَدَّسِ فسألوهُ: “هل يَكونُ العَمَلُ مِن أجلِ شِفاءِ المَرضى يومَ السَّبتِ حَلالاً؟” 11 لكنّهُ (سلامُهُ علينا) سألَهُ بدورِهِ: “لنَفتَرِضْ أنّ لأحَدِكُم خَروفًا، سَقَطَ يومَ سَبتٍ في حُفرةٍ، ألا يُخرِجُهُ مِنها؟ 12 ألَيسَ الإنسانُ أفضَلَ مِن خَروفٍ؟! لهذا فإنّ عِلاجَ المَرضى يومَ السَّبتِ حَلالٌ”. 13 ثُمّ التَفَتَ إلى الرَّجُلِ المَشلولِ اليَدِ قائلاً: “مُدَّ يَدَكَ!” فاستَجابَ الرَّجُلُ فمَدَّ يَدَهُ فصارَت سَليمةً مُعافاةَ كاليدِ الأُخرى. 14 وهُنا غادَرَ المُتَشَدِّدونَ وتآمَروا على قَتلِهِ (سلامُهُ علينا).
عيسى (سلامُهُ علينا) صَفيُّ الله
15 وعَلِمَ (سلامُهُ علينا) بخَبَرِ تِلكَ المؤامَرةِ، فانصَرَفَ عن ذلِكَ المَكانِ. فتَبِعَهُ عَدَدٌ كَبيرٌ مِن النّاسِ الّذينَ شَفَى جَميعَ مَرضاهُم، 16 لكنّهُ حَذَّرَهُم مِن إذاعةِ أمرِهِ. 17 وتَمَّ ذلِكَ كُلُّهُ ليَتَحقّق قولَهُ تَعالى على لِسانِ النَّبيِّ أشعيا: 18 “هوذا عَبدي الّذي اختَرتُهُ، حَبيبي المُرتَضَى، سأُفيضُ عليهِ رُوحي، فيُعلِنُ العَدلَ بَينَ أُمَمِ العالَمِ مُعيدًا الحقَّ لصاحبِهِ، 19 لن يُخاصِمَ ولن يَصيحَ ولن يَعلوَ بصوتِهِ في السُّوقِ 20 ولن يَتَجَبّرَ فيَسحَقَ المُستَضعَفينَ في الأرضِ كشُعلةِ فَتيلةِ، بل سيَتَلَطّفُ بِهِم، ولن تُحبَطَ عَزيمتُهُ حتّى يُقيمَ العَدلَ. 21 وستَضَعُ شُعوبُ الأرضِ رَجاءَها فيهِ”. تشير هذه النبوءة من أشعيا إلى أن السيد المسيح رجل سلام، إلا أن العديد من اليهود كانوا يعتقدون أن المسيح المنتظر سيكون قائدا عسكريًا يهزم أعداء بني يعقوب. لهذا السبب، أخفى سيِّدنا عيسى حقيقة كونه المسيح، وأخذ يعلّم بواسطة الأمثال والحكايات الرمزية عن صفات مملكة الله الحقيقية.
قوّة الله لا قوّة إبليس
22 ثُمّ جاؤوهُ برَجُلٍ كَفيفٍ أبكَمَ بِهِ مَسٌّ شَيطانيٌّ، فشَفاهُ في الحالِ فعادَ إليهِ بَصَرُهُ ونُطقُهُ. 23 فأخَذَت الدَّهشةُ الحاضِرينَ الّذينَ قالوا: “أهو المَسيحُ المُنتَظَرُ، وَريثُ عَرشِ النَّبيِّ داودَ!؟” انظر إلى الحاشية في متّى 9: 33. 24 وعِندَما سَمِعَ المُتَشَدِّدونَ كَلامَ النّاسِ هذا، انبَرَوا قائلينَ: “إنّما يَطرُدُ هذا الرَّجُلُ الشَّياطينَ بقوّةِ إبليسَ الشَّيطانِ الأكبَر”. 25 وعَرَفَ (سلامُهُ علينا) ما يَدورُ في سَرائرِهِم فالتَفَتَ إليهِم قائلاً: “إذا وَقَعَ الشِّقاقُ في مَملَكةٍ خُرِبَت، وكُلُّ بَيتٍ انقَسَمَ أهلُهُ بَعضُهُم على بَعضٍ انهارَ وزالَ. 26 وأنتُم تَزعُمونَ أنّي بعَونِ إبليسَ أُحَرِّرُ النّاسَ مِن الشَّياطينِ. فكَيفَ للشَّيطانِ أن يَدومَ طُغيانُهُ وشَرُّهُ إذا وَقَعَ في مَملَكتِهِ الشِّقاقُ؟! 27 ولنَفتَرِضْ أنّي أطرُدُ الشَّياطينَ بواسِطةِ إبليسَ، فهَلاّ أخبَرتُموني بقوّةِ مَن يَستَعينُ أتباعُكُم في طَردِهِم الشَّياطين؟! إنّ أتباعَكُم سيَرُدّونَ عليكُم مَزاعِمَكُم. 28 أمّا أنا فأطرُدُ الشَّياطينَ بقوّةِ رُوحِ اللهِ، وهذا دَليلٌ على أنّ قيامَ المَملَكةِ الرَّبّانيّةِ قد حَلَّ حقًا!§ ساد اعتقادٌ بعدم فعليّة روح الله بعد وفاة آخر نبي من الأنبياء السابقين، إلاّ أنّ العديد كانوا يعتقدون أنّ الله سيمنح الروح ثانيةً للمؤمنين مع مجيء السيد المسيح. 29 ثُمّ دَعُوني أُعطيكُم مِثالاً: كَما أنّهُ لا يَستَطيعُ أحَدٌ نَهبَ دارِ رَجُلٍ قَويٍّ إلاّ إذا قَيَّدَهُ أوّلاً، بالطَّريقةِ نَفسِها لو لم أكُن قد تَغَلَّبتُ على الشَّيطانِ، لم يَكُنْ بوُسعي طَردُ أعوانِهِ مِن أجسادِ مَن أنعَمَ اللهُ عليهِم بذلِكَ! 30 فمَن لَيسَ مَعي فسيَكونُ حَتمًا ضِدّي، ومَن لا يَهدي النّاسَ ويَجمَعُهُم على نَهجٍ قَويمٍ فهو يَعمَلُ على تَضليلِهِم. 31‏-32 أمّا بشأنِ ما اتّهمتُموني بِهِ أيُّها المُتَشَدِّدونَ، فأقولُ لكُم: عِندَما يَتَوَلّى إنسانٌ إيذاءَ آخَرَ أو الافتِراءَ عليهِ باطِلاً، فإنّهُ يُغفَرُ لهُ إن تابَ، حتّى ولو كانَ المُفتَرَى عليهِ سَيِّدَ البَشَرِ. أمّا مَن يُصِرُّ على الكُفرِ مِنكُم ناسِبًا السّوءَ إلى رُوحِ اللهِ، فلن يُغفَرَ لهُ ذَنبُهُ، لا في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ!”
الشّجرة تُعرف من ثمارها
33 “إنّ الشَّجَرَ الطَّيِّبَ يُعطي ثِمارًا طَيّبةً، والخَبيثَ مِنهُ يُعطي ثِمارًا خَبيثةً، فكُلُّ شَجَرةٍ تُعرَفُ مِن ثِمارِها. 34 ومِن أينَ لكُم أيُّها الماكِرونَ كالأفاعي أنْ تُحَدِّثوا بالطَّيّبِ مِن الكَلامِ وأنتُم الأشرارُ؟ إذ لا يَبوحُ اللِسانُ إلاّ بما وَقَرَ في القَلبِ. 35 والصّالِحُ مِن النّاسِ يَفيضُ بما في داخلِهِ مِن صلاحٍ، وكذا الشِّرير يَنضَحُ مِن الشَّرِ الّذي في داخلِهِ. 36 وإنّي لمُخبِرُكُم بأنّ كُلَّ إنسانٍ يُحاسَبُ يومَ الدِّينِ على كَلامِهِ الباطِلِ. 37 فكَلامُكَ إمّا يُنَجّيكَ وإمّا يَقودُكَ إلى الهَلاكِ”.
آية النّبيّ يونس
38 وتَوَجَّهَ إلى سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) بَعضُ الفُقَهاءِ والمُتَشَدِّدينَ قائلينَ: “أيُّها المُعَلِّمُ، نُريدُ أن نَرى مُعجِزةً مِنكَ تُقنِعُنا بأنّكَ رَسولُ اللهِ”. 39 فأجابَهُم (سلامُهُ علينا): “يا مَعشَرَ الأشرارِ الفاسِقينَ! أنتُم تُطالِبونَ بآيةٍ، ولن تَكونَ لكُم سِوى الآيةِ الّتي كانَت للنَّبيّ يُونسَ. 40 فكما مَكَثَ النَّبيُّ يونسُ في بَطنِ الحُوتِ ثَلاثةَ أيّامٍ بلياليها، فكذلِكَ يَكونُ حالُ سَيّدِ البَشَرِ الّذي سيَمكُثُ في بَطنِ الأرضِ ثلاثةَ أيّامٍ بلَياليها. 41 وسيُبعَثُ أهلُ نينَوى عِندَ قيامِ السّاعةِ مَعَ هذا الشَّعبِ شاهِدينَ عليهِ، لأنّهُم تابوا عِندَ سَماعِهِم إنذارَ النَّبيِّ يونسَ، أمّا أنتُم فتَرفُضونَ التَّوبةَ على يدِ مَن هو أعظَمُ مِن النَّبيِّ يونسَ! 42 وستُبعَثُ مَلِكَةُ سَبأ مَعَ هذا الشَّعبِ شاهِدةً عليهِ، لأنّها أتَتْ مِن أقاصي الأرضِ لتَسمَعَ حِكمةَ النَّبيِّ سُليمانَ، في حينِ أنّكُم تَصُمّونَ آذانَكُم عن سَماعِ مَن هو أعظَمُ مِن النَّبيِّ سُليمانَ!”* كان العديد من اليهود يشعرون أنّهم فقط على استقامة دون سائر الشعوب، إلاّ أن سيِّدنا عيسى أعطاهم الأمثلة حول استقامة الأجانب الذين تابوا إلى الله، كمثل أهل مدينة نينوى ومثل ملكة سبأ، بينما كانت تلك الجماعة من اليهود ترفض التوبة.
خطورة عدم الإيمان
43 ثُمّ قالَ (سلامُهُ علينا): “عِندَما يَخرُجُ الشَّيطانُ مِن إنسانٍ، يَتَوَجَّهُ إلى أماكِنَ خاليةٍ باحِثًا عن الرّاحةِ، وعِندَما لا يَعثُرُ عليها، 44 يَقولُ: “لأعودَنَّ إلى ذلِكَ الجَسَدِ الّذي كُنتُ فيهِ”. ولكنّهُ عِندَما يَعودُ ويَراهُ بيتًا نَظيفًا مُرَتَّبًا، 45 يَرتَدُّ عنهُ ثُمّ يَعودُ إليهِ وقد صَحِبَهُ مِن الشّياطينِ سَبعةٌ أشَدُّ مِنهُ وَطأةً وأعنَفُ، ثُمّ يَدخُلونَ ذلِكَ الإنسانَ ويَسكُنونَهُ، فتُصبِحَ حالُهُ أشَدَّ سُوءًا مِمّا كانَت عليهِ في السّابقِ. وهذا نَفسُهُ ما سيُصيبُ هذا الشَّعبَ الشِّريرَ”. يشير سيدنا عيسى هنا إلى أنّه على رغم من طرده الشياطين، فإنّ الناس الأشرار في زمنه كانوا كأنّهم يدعُون الشياطين إلى العودة من جديد. وهذا شبيه بما سيصيب هذا الشعب.
أمّ سيّدنا عيسى وإخوته
46 وبَينَما كانَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) يُحَدِّثُ النّاسَ، وَصَلَت أُمُّهُ وإخوتُهُ، فوَقَفوا خارِجًا يَنتَظِرونَهُ بَعدَ أن طَلَبوا الحَديثَ مَعَهُ. 47 فتَوَجَّهَ أحَدُ الحاضِرينَ إليهِ يُخبِرُهُ بذلِكَ قائلاً: “والدتُكَ وإخوتُكَ يَنتَظِرونَكَ في الخارجِ ويُريدونَ التَّحَدُّثَ إليكَ”. 48 فأجابَهُ قائلاً: “هل تَدرونَ مَن هُم أُمّي وإخوتي فِعلاً؟” 49 ثُمّ أشارَ بيدِهِ إلى أتباعِهِ: “هؤلاءِ الآنَ هُم أهلي، 50 وكُلُّ مَن يَسعى إلى مَرضاةِ اللهِ أبي الصَّمَدِ في عُلاه، فهو فَردٌ مِن أفرادِ عائلتي”.

*الفصل الثّاني عشر:2 انظر الهامش في مرقس 2: 24.

الفصل الثّاني عشر:21 تشير هذه النبوءة من أشعيا إلى أن السيد المسيح رجل سلام، إلا أن العديد من اليهود كانوا يعتقدون أن المسيح المنتظر سيكون قائدا عسكريًا يهزم أعداء بني يعقوب. لهذا السبب، أخفى سيِّدنا عيسى حقيقة كونه المسيح، وأخذ يعلّم بواسطة الأمثال والحكايات الرمزية عن صفات مملكة الله الحقيقية.

الفصل الثّاني عشر:23 انظر إلى الحاشية في متّى 9: 33.

§الفصل الثّاني عشر:28 ساد اعتقادٌ بعدم فعليّة روح الله بعد وفاة آخر نبي من الأنبياء السابقين، إلاّ أنّ العديد كانوا يعتقدون أنّ الله سيمنح الروح ثانيةً للمؤمنين مع مجيء السيد المسيح.

*الفصل الثّاني عشر:42 كان العديد من اليهود يشعرون أنّهم فقط على استقامة دون سائر الشعوب، إلاّ أن سيِّدنا عيسى أعطاهم الأمثلة حول استقامة الأجانب الذين تابوا إلى الله، كمثل أهل مدينة نينوى ومثل ملكة سبأ، بينما كانت تلك الجماعة من اليهود ترفض التوبة.

الفصل الثّاني عشر:45 يشير سيدنا عيسى هنا إلى أنّه على رغم من طرده الشياطين، فإنّ الناس الأشرار في زمنه كانوا كأنّهم يدعُون الشياطين إلى العودة من جديد. وهذا شبيه بما سيصيب هذا الشعب.