الفصل الحادي عشر
النّبيّ يحيـى يرسل مَن يسأل عيسى (سلامُهُ علينا)
وعِندَما أنهى (سلامُهُ علينا) إلقاءَ وَصاياهُ على حَواريّيهِ الاثنَي عَشَر، مَضَى مُواصِلاً نَشرَ رِسالتِهِ في بَلدات تِلكَ المِنطقةِ. وبَلَغَ يَحيى (عليه السّلام) وهو في السِّجِنِ خَبَرُ أعمالِ عيسى (سلامُهُ علينا)، فبَعَثَ ببَعضِ أتباعِهِ يَستَفسِرونَهُ: “ أأنتَ المُنقِذُ المُنتَظَرُ الّذي وَعَدَنا اللهُ بِهِ؟ أم علينا أن نَنتَظِرَ غَيرَكَ؟!” فرَدَّ عليهِم عيسى (سلامُهُ علينا) قائلاً: “امضُوا في حالِ سَبيلِكُم، وأخبِروا يَحيى بما تَسمَعونَ وما تُبصِرونَ، فكَما جاءَ في كِتابِ النَّبيِّ أشعيا: “إنّ العُميَ يُبصِرونَ، والعُرجَ يَمشونَ، والبُرْصَ يَبرؤُونَ، والصُمَّ يَسمَعونَ، والمَوتى يَحيَونَ، والمَساكينَ يُبَشَّرونَ.” فهَنيئًا لمَن لا يَفقِدُ إيمانَهُ بي”.
عظمة النّبيّ يحيى (عليه السّلام)
وعِندَما انصَرَفَ رُسُلُ يَحيى، التَفَتَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) إلى الحاضِرينَ الّذينَ احتَشَدوا حَولَهُ يُحَدِّثُهُم عن النَّبيِّ يَحيى قائلاً: “ماذا تَوَقّعتُم أن تَجِدوا عِندَما خَرَجتُم إلى البَراري؟ هل عَثَرتُم على رَجُلٍ هَزيلٍ كعُودٍ تَعبَثُ بِهِ الرِّياحُ؟! أم على رَجُلٍ فاخرِ الثِّيابِ؟! إنّ ذَوي الثِّيابِ الفاخِرةِ لا يُقيمونَ إلاّ في القُصورِ المُترَفةِ. فإذا كانَ خُروجُكُم لا يَتَعَلّقُ بهذا أو ذاكَ، فلِمَ خَرَجتُم، إذن؟ فهَل كُنتُم تَبحَثونَ عن نَبيّ؟ إنّ يَحيى حقًّا لَنَبيّ، بل هو أعظَمُ مِن نَبيّ! 10 لقد جاءَ ذِكرُهُ في كِتابِ النَّبيِّ مَلاكي إذ قالَ تَعالى عَنهُ: “هَا أنا أبعَثُ أمامَ مُختاري رَسولاً يُمَهِّدُ لهُ الطَّريقَ”. 11 والحقَّ أقولُ لكُم: لم يُولَد إنسانٌ أعظَمُ مِن النّبيِّ يَحيى. ولكنّ أصغَرَ واحدٍ في أهلِ المَملكةِ الرَّبّانيّةِ سيَحظى بمَقامٍ أعظَمَ مِن مَقامِهِ، ولقد بَدأت المَملكةُ الآنَ! 12 وجاءَ يَحيى ليُمَهِّدَ الدَّربَ لهذِهِ المَملكةِ، وأعداؤُها حتّى الآن يُعارِضونَ تأسيسَها، ويُقاوِمونَ بعُنفٍ الّذينَ يُريدونَ الانتِماءَ إليها. 13 ألا تَعلَمونَ أنّ جَميعَ الأنبياءِ قد بَشَّروا بهذِهِ المَملكةِ في كُتُبِهِم قَبلَ زَمَنِ النَّبيِّ يَحيى، وقد جاءَ ذِكرُها في التَّوراةِ أيضًا. 14 وإنْ صَدَّقتُم قَولي فإنّ النَّبيَّ يَحيى هو مَن أنبأَ عَنهُ النَّبيُّ مَلاكي قائلاً: “إن النَّبيَّ إلياسَ سيَرجُعُ مِن غَيبتِهِ!” 15 فاسمَعوا أيُّها العاقِلونَ”.* أراد السيد المسيح من كلامه هذا أنّ النبي يحيى حقّق بظهوره الوعود التي جاءت عن النبي إلياس.
غباء الرّافضين
16 “أمّا أولئكَ الّذينَ يَرفُضونَ دَعوتي ودَعوةِ النَّبيِّ يَحيى، فبِمَن أُشبِّهُهُم؟ إنّهُم يُشبهونَ أولادًا يَلهونَ في ساحةِ البَلدةِ، يَقولُ بَعضُهُم لبَعضٍ: 17 “ما بِكُم تَرفُضونَ كُلَّ شَيء؟ نَدعوكُم إلى لُعبةِ العُرسِ فلا تَرقُصونَ مَعَنا، ونَدعوكُم إلى لُعبةِ الجَنازةِ، فلا تَبكونَ!” 18 فأنتُم أيُّها الرّافِضونَ كُنتُم كهَؤلاءِ الأطفالِ يومَ رَفَضتُم النَّبيَّ يَحيى بن زَكَريّا، وأنكرتُم عليهِ زُهدَهُ في الخُبزِ والخَمرِ وادّعيتُم قائلينَ: “قد أصابَهُ مَسٌّ”. 19 لكن عِندَما جاءَكُم سَيّدُ البَشَرِ يأكُلُ ويَشرَبُ مِثلكُم أنكَرتُموهُ أيضًا قائلينَ: “هو رَجُلٌ يأكلُ ويَشرَبُ بِشَرَهٍ، ويُصادِقُ جُباةَ الضَّرائبِ وغَيرَهُم مِن الضّالّينَ!” فانتَبِهوا يا أُولي الألبابِ، إنّ الحُكَماءَ هُم الّذينَ يُدرِكونَ حِكمةَ اللهِ عِندَما تُعرَضُ عليهِم”.
الويل لغير التّائبين
20 ثُمّ أخَذَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) يُعاتِبُ اليَهودَ في القُرى الّتي وَقَعَت فيها أكثَرُ مُعجِزاتِهِ، ولكنّ أهلَها كانوا قد رَفَضوا التَّوبةَ، فأخَذَ يُؤنِّبُهُم قائلاً: 21 “الويلُ لكُم يا أهلَ بَلدةِ كورَزينَ، والويلُ لَكُم يا أهلَ بَلدةِ بَيتَ صَيدا! لو شَهِدَ الوَثَنيُّونَ في صورَ وصَيدا ما جَرَى بَينَكُم على يَديَّ مِن مُعجِزاتٍ، لرَجَعوا عن غَيّهِم وتابوا إلى اللهِ تَوبةً نَصوحًا مُنذُ أمَدٍ بَعيدٍ، ولَجَعَلوا مِن الخَيشِ رِداءً لهُم غَمًّا وكَمَدًا، وذَرّوا الرَّمادَ على رُؤوسِهِم نَدَمًا وحَسرةً. 22 وإنّي لمُخبِرُكُم يا أهلَ بَلدتي كورَزينَ وبَيتَ صَيدا أنّ مَصيرَ كُفَّارِ أهلِ صورَ وصَيدا سيَكونُ أخَفَّ مِن مَصيرِكُم يومَ الحِسابِ! 23 أمّا أنتُم يا أهلَ كَفْرَناحومَ! أفتَظُنّونَ أنّكُم ستَكونونَ أعلى مَقامًا مِن غَيرِ اليَهودِ يومَ الدِّين؟! لا، بل ستَكونونَ أسفلَ سافِلينَ! ولو شاهَدَ قومُ لوطٍ في مَدينةِ سَدوم المُعجِزاتِ الّتي جَرَت عِندَكُم لظَلّتْ سَدوم قائمةً إلى الآنَ! 24 ألا إنّ أهلَ سَدومَ سيَكونونَ أحسَنَ حالاً مِنكُم يومَ الدِّين”. كان اليهود في تلك القرى يشعرون أنّهم أفضل من الوثنيين، إلاّ أنّ سيِّدنا عيسى أخبرهم أنّهم سيلقون عقابًا أشدّ من عقاب الوثنيين لعدم إيمانهم به.
السّيّد المسيح يناجي الله
25 ثُمّ تَوَجَّهَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) إلى اللهِ داعيًا: “اللهُمّ أيُّها الأبُ الصَّمَدُ، أحمَدُكَ يا رَبَّ السَّماواتِ والأرضِ، فقد أخفَيتَ سِرَّ رِسالتي عنِ الّذينَ يَحسَبونَ أنّهم حُكَماءُ وأصحابُ عِلمٍ، وكَشَفتَها لهؤلاءِ البُسَطاءِ المُتَواضِعينَ مِن عِبادِكَ! 26 نَعم أيُّها الأبُ الرَّحيمُ، هذا ما ارتَضيتَهُ”.
27 وتابَعَ (سلامُهُ علينا) قائلاً: “قد أوكَلَ إليّ اللهُ أبي الصَّمَدُ أمرَ كُلِّ شَيء، ولا أحَدَ يَعرِفُ حَقيقتي إلاّ هو، ولا أحَدَ يَعرِفُ حَقيقةَ اللهِ الأبِ الصَّمَدِ إلاّ أنا الابنُ الرُّوحيُّ لهُ تَعالى، والنّاسُ الّذينَ أرَدتُ أن أكشِفَ لهُم عَنها”.
عيسى (سلامُهُ علينا) والمتعَبون في الأرض
28 “إليَّ إليَّ أيُّها المُتعَبونَ والمَساكينُ الّذينَ يَنوؤونَ بأحمالٍ بسَبَبِ التَّقاليدِ الثَّقيلةِ الّتي وَضَعَها الفُقَهاءُ على كاهلِهِم! وأنا أُريحكُم عِندَما تُصبِحونَ مِن أتباعي. 29 تَعالَوا واستَبدِلوا أثقالَكُم بخُضوعِكُم لتَعاليمي وهي خَفيفةٌ عليكُم. نعم، تَعَلَّموا مِنّي لأنّي لَطيفٌ بِكُم مُتَواضِعُ القَلبِ بَينَكُم، وستَجِدونَ الرّاحةَ لنُفوسِكُم، 30 لأنّ تَعاليمي يَسيرةٌ وأوامري بَسيطةٌ”.

*الفصل الحادي عشر:15 أراد السيد المسيح من كلامه هذا أنّ النبي يحيى حقّق بظهوره الوعود التي جاءت عن النبي إلياس.

الفصل الحادي عشر:24 كان اليهود في تلك القرى يشعرون أنّهم أفضل من الوثنيين، إلاّ أنّ سيِّدنا عيسى أخبرهم أنّهم سيلقون عقابًا أشدّ من عقاب الوثنيين لعدم إيمانهم به.