الفصل التّاسع
وأضافَ: “الحقَّ أقولُ لكُم: إنّ فيكُم مَن سَيَشهَدونَ ظُهورَ المَملكةِ الرّبّانيّةِ بقوّةٍ قَبلَ أن يَموتوا!”* كان السيد المسيح يشير بكلامه عن قيام المملكة الربّانية إلى بعثه من الموت وتتويجه بصفته المسيح الملك، وهو الحدث الذي سيتمّ بعد عام تقريبا.
تجلّي السيّد المسيح ومجيء إلياس وموسى
وبَعدَ سِتّةِ أيّامٍ، جَمَعَ سَيّدُنا عِيسَى (سلامُهُ علينا) بُطرُسَ ويَعقوبَ ويوحَنّا، وصَعِدَ بِهِم فوقَ جَبَلٍ مُرتفِعٍ مُنفرِدًا بِهِم، وهُناكَ تَجَلّى لهُم في مَشهدٍ عَظيمٍ، بثيابٍ بَيضاءَ تَخطَفُ الأبصارَ لا قُدرةَ للبَشَرِ على نَصاعَتِها، وظَهَرَ لهُمُ النّبيُّ إلياسُ والنّبيُّ موسى (عليهما السّلام) وأخَذا يُحادِثانِ عِيسَى (سلامُهُ علينا). 5‏-6 فهالَ الحَواريِّينَ المَشهَدُ العَظيمُ وأخَذَ بِلُبِّهِم، ودَنا بُطرُسُ مِن سَيِّدِنا عِيسَى (سلامُهُ علينا) وقالَ: “يا سَيِّدي ومَولايَ، كَم هو عَظيمٌ أن نَبقَى ها هُنا! نُقيمُ ثلاثةَ مَقاماتٍ: لكَ مَقامٌ، وللنّبيِّ مُوسى مَقامٌ، وللنّبيِّ إلياسُ مَقامٌ”. كان بطرس يعتقد أنّ على النبي إلياس أن يقيم على الأرض بعض الوقت بعد رجوعه من الغيب، وذلك كان الاعتقاد السائد بين الناس. لذا استحسن بناء مقام لإلياس ولموسى وعيسى أيضًا. ثُمّ ظَلَّلَتْهُم سَحابةٌ وأتاهُم صَوتٌ مِنها قائِلاً: “هوذا الحَبيبُ، الابنُ الرُّوحيُّ لي، هو الّذي يَجِبُ أن تَسمَعوا لهُ وتُطيعوهُ!” وتَفاجؤوا عِندَما التَفَتوا حَولَهُم، فلم يَجِدوا سِوى عِيسَى (سلامُهُ علينا).
ثُمَّ تَوَجَّهوا صَوبَ سَفحِ الجَبَلِ نازِلينَ، وأثناءَ نُزولِهِم طَلَبَ سَيِّدُنا عِيسَى (سلامُهُ علينا) مِنهُم كِتمانَ ما شاهدُوهُ، إلى حينِ انبِعاثِ سَيِّدِ البَشَرِ مِن بَينِ الأمواتِ، 10 فكَتَموا الأمرَ حافِظينَ وَصِيَّتَهُ، إلاّ أنّهُم كانوا في حَيرةٍ مِن أمرِهِم حَولَ مَعنى قِيامةِ سَيِّدِ البَشَرِ مِن بينِ الأمواتِ، 11 فسَألوهُ عَن ذلِكَ قائلينَ: “لماذا يَقولُ عُلماءُ التّوراةِ إنّ مَجيءَ النَّبيِّ إلياسَ سَيكونُ قَبلَ مَجيءِ المَسيحِ المُنتَظَرِ؟” طرح الحواريون هذا السؤال لاعتقادهم أن النبي إلياس سيمكث في الأرض مدّة من الزمن قبل بعث الأموات ويوم الدين. لكن عندما ظهر إلياس أمامهم، ولم يمكث، احتاروا في كلام سيدنا عيسى عن قيامته في المستقبل القريب. 12 فأجابَهُم قائلاً: “نعم. يَجيء النَّبيُّ إلياسُ أوّلاً ويُصلِحُ أُمورَ البَشَرِ.§ يشير سيدنا عيسى هنا إلَى نبوّة النبي ملاكي، الذي أنبأ بعودة النبي إلياس قبل يوم الدين قائلاً: “ها أنا أرْسِلُ إليكُم النبيَّ إلياس قبل أنْ يأتِيَ يوْمُ قضاءِ اللهِ العَظيمِ الرَّهِيبِ”. ولكنّ كِتابَ اللهِ يَقولُ أيضًا إنّ سَيِّدَ البَشَرِ سيَلقَى الأذى مِنَ النّاسِ وسيَنبُذونَهُ. 13 وأقولُ لكُم إنّ إلياسَ قد جاءَ فِعلاً، وأساؤوا مُعاملتَهُ، كَما جاءَ عنهُ في كُتُبِ الأنبياءِ”.* كان السيد المسيح يقصد بهذا الكلام أنّ النبي يحيى قد حقّق بظهوره الوعود التي جاءت عن النبي إلياس.
السّيّد المسيح (سلامُهُ علينا) يشفي صبيًّا من مسّ شيطانيّ
14 وعادَ سَيِّدُنا عِيسَى وحَواريّوهُ الثّلاثة إلى سَفحِ الجَبَلِ، فرَأى بَقيّةَ أتباعِهِ الّذينَ كانوا في انتِظارِهِ، وقد تَحَلَّقَ حَولَهُم جَمعٌ كَبيرٌ مِنَ النّاسِ، وكانوا يُجادِلونَ عُلماءَ التَّوراةِ. 15 ولكِن ما إن رَآهُ الجَمعُ حتّى اندَهَشوا وأسرَعوا إليهِ مُحيِّينَ. 16 فسَألَهُم قائلاً: “فِيمَ تَتَجادَلونَ وأتباعي؟” 17 فانبَرَى مِن بَينِهم رَجُلٌ وقالَ لهُ: “يا مُعَلِّمُ، جِئتُ إليكَ بابني وبِهِ مَسٌّ مِنَ الشَّيطانِ جَعَلَهُ أبكَمَ، 18 وإنّهُ ليَزِيدُ في أذاهُ حِينَ يَصرَعُهُ حتّى يُسمَعَ لأسنانِ الصَّبيِّ صَريرٌ تَكادُ تَتَكَسَّرُ مِنهُ، ويَعلو الزَّبَدُ شَفتَيهِ ويَتَصَلَّبُ. فلمّا عَلِمتُ بِقُدومِ أتباعِكَ، وهُم على ما سَمِعتُ عَنهُم مِن كَراماتٍ، سَألتُهُم شِفاءَ ابني وطَردَ الشَّيطانِ الّذي حَلَّ فيهِ، فعَجَزوا عَن ذلِكَ”. 19 فاتَّجَهَ عِيسَى (سلامُهُ علينا) إلى الحَشدِ مُؤنِّبًا: “أيُّها الشَّعبُ الضّالُّ! أتَظُنّونَ أنّي باقٍ مَعَكُم إلى الأبَدِ؟ إلى مَتى أتَحَمَّلُ عَدَمَ إيمانِكُم بي وبأتباعي؟ هاتوا الصَّبيَّ لأراهُ”. 20 فجِيءَ لهُ (سلامُهُ علينا) بالصَّبِيِّ، وما إن لَمَحَهُ الشَّيطانُ المُتلبِّسُ بِهِ حتّى تَخَبَّطَ الصَبِيَّ ووَقَعَ إثرَ ذلِكَ مُرغيًا مُزبِدًا يَتَلَوّى. 21 فتَوجَّهَ (سلامُهُ علينا) إلى والِدِ الصَّبِيِّ سائلاً: “مُنذُ مَتى ووَلدُكَ يُعاني هذا البَلاءَ؟!” فأجابَهُ الأبُ قائلاً: “مُذ كانَ طِفلاً، 22 كانَ يَلقَى مِن أذى الشَّيطانِ المُتلبِّسِ فيهِ ما يَلقاهُ، فكانَ يُلقِيهِ في النّارِ تارةً، أو في الماءِ تارةً أُخرى مُحاوِلاً إهلاكَهُ! وإنّي أسألُكَ، إن كُنتَ قادِرًا على فِعلِ شَيء، أن تُشفِقَ علينا وتُساعِدَنا!” 23 فأجابَهُ سَيِّدُنا عِيسَى (سلامُهُ علينا) قائلاً: “لِمَ تَقولُ: “إن كُنتَ قادرًا؟” ألا إنّ كُلَّ شَيءٍ مُمكِنٌ إن وَثِقتَ بي، فإنّ للمُؤمِنِ بي ما يَشاءُ!” 24 فصاحَ الأبُ باكيًا: “أنا مُؤمِنٌ بِكَ، فساعِدني حتّى يَزيدَ إيماني!” 25 ولاحَظَ عِيسَى (سلامُهُ علينا) إقبالَ النّاسِ عليهِ، فما كانَ مِنهُ إلاّ أنِ انتَهَرَ الشَّيطانَ المُتلبِّسَ ذلِكَ الصَّبيَّ قائلاً: “أيّتُها الرُّوحُ البَكماءُ، آمُرُكِ بالخُروجِ مِن هذا الصَّبيِّ وعَدَمِ الرُّجوعِ إليهِ أبَدًا!” 26 فاستَجابَ الشَّيطانُ مُكرَهًا لأوامِرِ عِيسَى (سلامُهُ علينا)، وانسَلَّ مِنهُ بِحَرَكةٍ جَعَلَتْهُ يَتَخَبَّطُ حتّى أصبَحَ صَريعًا مُلقىً على الأرضِ كالميِّتِ، وظَنَّ الجَمعُ أنّ الصَّبيَّ قد ماتَ فِعلاً. 27 ولكنّ سَيّدَنا عِيسَى (سلامُهُ علينا) قامَ إلى الصَّبيِّ وأنهَضَهُ فقامَ مُعافىً.
28 وتَوَجَّهَ سَيِّدُنا عِيسَى (سلامُهُ علينا) إلى البَيتِ وعِندَما انفَرَدَ بِهِ أتباعُهُ سَألوهُ: “لماذا كُنّا عاجِزينَ عَن شِفاءِ ذلِكَ الصَّبيِّ مِن تِلكَ الرُّوحِ الشَّيطَانيّةِ؟!” 29 فأجابَهُم سَيِّدُنا عِيسَى (سلامُهُ علينا) وقالَ: “لا تَستطِيعونَ أن تَطرُدوا هذا النَّوعَ مِنَ الشَّياطينِ مِن تِلقاءِ أنفُسِكُم، إنّما يَكونُ طَردُهُ بِطَلَبِ عَونِ الله باجتِهادٍ وتَواضُعٍ”.
المسيح ينبئ بموته وقيامته مرّةً ثانية
30 ثُمّ خَرَجَ سَيِّدُنا عِيسَى وأتباعُهُ ومَرّوا بالجَليلِ. ولم يَكُن راغِبًا في أن يَعلَمَ أحَدٌ بوُجودِهِ، 31 لأنّهُ أرادَ أن يُكثِرَ مِن تَعليمِ أتباعِهِ، فقالَ لهُم: ““سَتَتِمُّ خيانةُ سَيِّدِ البَشَرِ بتَسليمِهِ إلى البُغاةِ الطُّغاةِ، فيَقتلونَهُ إلاّ أنّ اللهَ سيَبعَثُهُ حيًّا بَعدَ ثلاثةِ أيّامٍ”. 32 ولم يَفهَمْ أتباعُهُ نُبوءتَهُ تِلكَ، ولكِنّهُم لم يُحاوِلوا الاستِفسارَ لأنّهُم تَهيَّبوا ذلِكَ.
من هو الأعظم
33 وتَوَجَّهَ سَيِّدُنا عِيسَى مَعَ أتباعِهِ بَعدَ ذلِكَ إلى بَلدةِ كَفرناحوم. وعِندَ وصُولِهِم البَيتَ الّذي كانوا يُقيمونَ فيهِ، التَفَتَ إليهِم مُتَسائلاً: “فيمَ كُنتُم تَتَجادَلونَ أثناءَ الطَّريقِ؟” 34 فصَمَتَ الجَميعُ، لأنّهُم كانوا يَتجادَلونَ عَمَّن هو الأعظَمُ فيهِم. 35 حِينئذٍ جَلَسَ عِيسَى (سلامُهُ علينا)، ودَعا إليهِ حَوارِيِّيهِ الاثنَي عَشَرَ وقالَ لهُم: “مَن أرادَ أن يَكونَ فيكُم عَظيمًا، فلْيَكُن خادمًا لكُم وآخِر الكُلِّ”. 36 وأخَذَ طِفلاً، وأوقفَهُ في وَسَطِهِم، وبَعدَ ذلِكَ ضَمَّهُ إليهِ قائلاً: 37 “مَن قَبِلَ مَبعوثي ولو كانَ طِفلاً، فقد قَبِلَني، ومَن قَبِلَني فقد قَبِلَ اللهَ الّذي أرسَلَني”.
مَن لا يواجهنا فهو منّا
38 وسألَ يوحَنّا عِيسَى (سلامُهُ علينا) فقالَ: “مُعَلِّمي ومَولايَ: رَأينا رَجُلاً يُخَلِّصُ النّاسَ مِنَ الشَّياطينِ بِسُلطانِ اسمِكَ فمَنَعناهُ لأنّهُ لَيسَ مِن جَماعتِنا!” 39 فالتَفَتَ إليهِ قائلاً: “لا تَمنَعوهُ عَن ذلِكَ! فمَن يَعمَلُ مُعجِزةً بِقُوّة اسمي فلن يُسيءَ إليَّ بَعدَها. 40 فمَن لَيسَ ضِدَّنا فهو مَعَنا”. 41 وتابَعَ قائلاً: “الحَقَّ أقولُ لكُم، مَن أسدَى إليكُم مَعروفًا ولو بِشُربةِ ماءٍ بسَبَبِ انتمائِكُم إليّ لأنّي المَسيحُ المُنتَظَرُ، فأجرُهُ لن يَضيعَ عِندَ اللهِ أبَدًا”.
تحذير لمن يُوَسْوسون بالإثم
42 ثُمَّ تابَعَ قائلاً: “أمّا مَن ضَلَّلَ المُؤمِنَ بي، وإن كانَ مِنَ الصِّغارِ، فإنّهُ يَنوءُ بِذَنبِهِ. وخَيرٌ لهُ عِندئِذٍ أن يَحمِلَ حَجَرَ الرَّحَى على كاهِلِهِ، وأن يَغُوصَ في البَحرِ بَعيدًا مِن أن يُواجِهَ خالِقَهُ بِهذا الذَّنبِ. 43‏-48 إنّ الوِزرَ للإنسانِ دَمارٌ، فأغلِقْ مِن دُونِهِ الأبوابَ، واقطَعْ يَدَكَ إن كانَت سَبَبًا في الآثَامِ. وابتُرْ رِجلَكَ إن سارَت بِكَ إلى مَهاوِي الخَطيئةِ. واقلَعْ عَينَكَ إن هي سَبَقَت بِكَ إلى الإثمِ، فالخَيرُ الخَيرُ أن تأتيَ يَومَ الحِسابِ بيَدٍ واحِدةٍ أو برِجلٍ واحِدة أو بعَينٍ واحِدة فتَذهَبَ إلى دارِ النَّعيمِ، مِن أن تأتيَ بِالاثنَتينِ وتُلقَى في نارِ جَهَنَّم حَيثُ النّارُ لا تُطفأ والدّودُ لا يَموتُ.
49 إنّ اللهَ سيُهلكُ كُلَّ هؤلاء الآثمينَ بالنّارِ 50 فمَثَلُ أتباعي في الدُّنيا كمَثَلِ المِلحِ الصّالحِ. وهل يَفقِدُ المِلحُ مُلوحَتَهُ؟ لأنّهُ إذا فَقَدَ مُلوحَتَهُ، فمَن يُعيدُها إليهِ ثانيةً؟ فيا أتباعي احفَظوا عَهدَ الخُبزِ والمِلحِ الّذي تَناوَلناهُ مَعًا، وسالِموا بَعضَكُم بَعضًا”.

*الفصل التّاسع:1 كان السيد المسيح يشير بكلامه عن قيام المملكة الربّانية إلى بعثه من الموت وتتويجه بصفته المسيح الملك، وهو الحدث الذي سيتمّ بعد عام تقريبا.

الفصل التّاسع:5‏-6 كان بطرس يعتقد أنّ على النبي إلياس أن يقيم على الأرض بعض الوقت بعد رجوعه من الغيب، وذلك كان الاعتقاد السائد بين الناس. لذا استحسن بناء مقام لإلياس ولموسى وعيسى أيضًا.

الفصل التّاسع:11 طرح الحواريون هذا السؤال لاعتقادهم أن النبي إلياس سيمكث في الأرض مدّة من الزمن قبل بعث الأموات ويوم الدين. لكن عندما ظهر إلياس أمامهم، ولم يمكث، احتاروا في كلام سيدنا عيسى عن قيامته في المستقبل القريب.

§الفصل التّاسع:12 يشير سيدنا عيسى هنا إلَى نبوّة النبي ملاكي، الذي أنبأ بعودة النبي إلياس قبل يوم الدين قائلاً: “ها أنا أرْسِلُ إليكُم النبيَّ إلياس قبل أنْ يأتِيَ يوْمُ قضاءِ اللهِ العَظيمِ الرَّهِيبِ”.

*الفصل التّاسع:13 كان السيد المسيح يقصد بهذا الكلام أنّ النبي يحيى قد حقّق بظهوره الوعود التي جاءت عن النبي إلياس.