الفصل الثّاني عشر
الله يؤدّب أهل بيته
إنَّ مَثَلَ هؤلاءِ الشّاهِدينَ على الإيمانِ، كمَثَلِ جَماعةٍ عَظيمةٍ مِن المُشاهِدينَ يَتَحَلَّقونَ حَولَنا. فلنَكُن كَأنَّنا في سِباقٍ، ولنَتُرُكَ جانِبًا كُلَّ ما يَعُوقُنا عَنِ المَسيرِ، ولنَتَحَرَّرَ مِنَ الذَّنبِ الّذي يُؤَدّي إلى سُقوطِنا بِكُلِّ سُهولةٍ، كَي نُواصِلَ في سِباقِ الإيمانِ المُمتَدِّ أَمامَنا بِعَزمٍ وتَصميمٍ. وكَما أنَّ المُتَسابقينَ يُحَدِّدونَ هَدَفَهُم جَيِّدًا، ثُمّ يَركُضونَ نَحوَهُ، فإنّهُ عَلينا أن نَشخَصَ بأبصارِنا إلى سَيِّدِنا عيسى، فهو الّذي أسَّسَ إيمانَنا وهو الّذي يَصِلُ بِهِ إلى غايتِهِ. لقَد تَحَمَّلَ عَذابَ المَوتِ على الصَّليبِ، لا يُبالي بالذُّلِّ الّذي لَقِيهُ، إذ كانَ يَرى ما يَنتَظِرُهُ مِن سُرورٍ، ثُمَّ جَلَسَ على يَمينِ عَرشِ اللهِ. فاعتَبِروا بِهِ، هو الَّذي تَحَمَّلَ عِداءَ الأشرارِ، حَتّى لا تَقنَطوا ولا يَنهارَ إيمانُكُم.
إنّكُم لَتُجاهِدونَ ضِدَّ السُّوءِ، ولكِن لَم تُسفَك دِماؤُكُم بَعدُ. إخوتي، أَتُراكُم نَسِيتُم نَصيحةَ النَّبيِّ سُليمانَ الّتي وَرَدَت في الكِتابِ، وفيها يَعتَبِرُكمُ اللهُ مِن آلِ بَيتِهِ؟ قالَ النَّبيُّ سُليمانُ: “أي بُنَيَّ، لا تَستَخِفَّنَّ إذا ما أدَّبَكَ اللهُ، ولا تَقنَطَنَّ إذا ما عاتَبَكَ. فمَن أَحَبَّهُ اللهُ أَدَّبَهُ، واللهُ يُعاقِبُ كُلَّ مَن يَجعَلَهُ مِن أَهلِ بَيتِهِ”.* يقتبس الكاتب هنا من سفر الأمثال 3: 11‏-12.
وقد يأخُذُ الأَبُ في تأديبِ أبنائِهِ بِالشّدَّةِ حَتّى يَسيروا في طَريقِ الصَّلاحِ. كذلِكَ يُرسِلُ اللهُ عليكُم ابتِلاءاتِهِ لِلغايةِ نَفسِها، فتَحَمَّلوا الضِّيقَ، فاللهُ رَبُّكُم وأنتُم أَهلُ بَيتِهِ المَحبوبونَ. فإن لم يَبتَلِكُم كَي تَكونوا مِن الصّالِحينَ، كَما يَفعَلُ ذلِكَ مَعَ الّذينَ هُم مِن عِيالِهِ، فذلِكَ يَعني أنّكُم مُدَّعُونَ ولَستُم في الحَقيقةِ مِن أهلِ بَيتِهِ. ونَحنُ نَحتَرِمُ آباءَنا الّذينَ عَلَّمونا الصَّلاحَ وأدَّبونا. أفلا يَجدُرُ بنا الآنَ أَن نَخضَعَ للهِ أبينا الرَّحمنِ الرَّحيمِ، حَتّى يَجعَلَنا مِنَ الخالِدينَ؟ 10 وكانَ تَأديبُ آبائِنا في الزَّمانِ مَحدودًا، بِما رَأوهُ مُناسِبًا. ولكِنَّ اللهَ يَختَبِرُنا دائِمًا لِصالِحِنا حَتّى نَتَمَتَّعَ بِقَبَسٍ مِن قُدسيّتِهِ. 11 وإنّه لَطَبيعيّ أن يَرى المَرءُ كُلَّ تأديبٍ في حينِهِ مؤلمًا، غَيرَ أنَّهُ سَيَرضى بَعدَ قَليلٍ حِينَما تُفعَمُ نَفسُهُ صَلاحًا وسَلامًا مِن ذلِكَ الاختِبارِ.
12 فشَدِّدوا ما ضَعُفَ مِن عَزائِمِكم، وما وَهَنَ مِن قوّتِكُم. 13 وسِيروا على الصِّراطِ المُستَقيمِ، حَتّى لا يَنحَرِفَ الّذينَ كانوا في إيمانِهِم ضُعَفاءَ، بل يُصبِحوا مِنَ السّالِمينَ الرّاشِدينَ. تتضمّن هذه الكلمات تلميحا إلى ما جاء على لسان النبي سليمان في سفر الأمثال 4: 26.
اِحذروا الكفر
14 اِسعَوْا إلى السَّلامِ مَعَ جَميعِ النّاسِ، وإلى نَذرِ حَياتِكُم للهِ، فدونَ هذا، تَعجِزونَ عن رُؤيةِ سَيِّدِنا حينَ يَتَجَلَّى. 15 فاحذَروا أن تَغفُلوا فتَخسَروا فَضلَ اللهِ، وأن يَنمو فيكُم، كَما ذَكَرَتْ التَّوراةُ: “الضَّلالُ كَالجِذرِ المَريرِ”، فيَخنُقَ مِنكُم الكَثيرَ ويُفسِدَهُم. التوراة، سفر التثنية 29: 18. 16 فاحذَروا أن يَكونَ بَينَكُم الفاسِقونَ أَو المُستَهتِرونَ أَهلُ الشَّهَواتِ، الّذينَ لا يَهتَمّونَ بِرِسالةِ اللهِ، مِثلُ العِيصَ الَّذي تَخَلَّى لأخيهِ النَّبيِّ يَعقوبَ عن بَرَكاتِ كَونِهِ الابنَ البِكرَ مُقابلَ إشباعِ شَهوةِ الطَّعامِ، غَيرَ مُبالٍ أنَّ ما يَطلُبُهُ أبوهُ مِنَ البَرَكاتِ، مَصحوبٌ بِما وَعَدَهُ اللهُ بِهِ. 17 وإنَّكُم لتَعلَمونَ، أنَّ العِيصَ حينَ رَغِبَ أن يَستَعيدَ ما أضاعَ مِن خَيراتٍ، بَعدَ أن كانَ بها مُستَخِفًّا، رَفَضَ أبوهُ رَجاءَهُ، فلم يَجِد سَبيلاً إلى تَغييرِ مَوقِفِ أبيهِ، رَغمَ ما أبداهُ مِن إلحاحٍ ودُموعٍ وتَوَسُّلٍ.
18 يا إخوتي، لم يَحدُث مَعَكُم كَما حَدَثَ مَعَ بَني يَعقوبَ قديمًا في طُورِ سِيناءِ، فَلَم يَستَطيعوا الاقتِرابَ مِن تَجَلّياتِ اللهِ في الجَبَلِ، ولا لَمسَ الجَبَلِ المُشتَعِلِ نارًا. إنَّ فيهِ لظُلمةً، وريحًا عاصِفةً وقتامةً، 19 وهُتافَ بوقٍ، وصَوتًا مُرعِبًا لدَرَجةِ أنّهُم التَمَسوا مِن النَّبيِّ موسى أَن يَطلُبَ مِن اللهِ قَطعَ هذا الخِطابِ. 20 فقد عَجَزوا عنِ تَحَمُّلِ ما جاءَ عنِ اللهِ: “فإن مَسَّ الجَبَلَ إنسانٌ، أو حَتّى حَيوانٌ، قُتِلَ رَجمًا بِالحِجارةِ”.§ التوراة، سفر الخروج 19: 12‏-13. 21 وكانَ ما تَراهُ العَينُ عَظيمًا مُرعِبًا، فقالَ النَّبيُّ موسَى: “إنّي أرتَعِشُ مِنَ الخَوفِ”.* لم ترد هذه التفاصيل في التوراة ويبدو أنّ ما جاء هنا هو إشارة إلى وحي جديد.
22 أَمّا أنتُم يا إخواني، فَبِفَضلِ إيمانِكُم أصبَحتُم مِنَ المُقَرَّبينَ، إذ دَخَلتُمُ الحاضِرةَ المُقَدَّسةَ في عِلّيّينَ، حاضِرةَ اللهِ الحَيِّ القَيّومِ في السَّماءِ فَوقَ جَبَلِ تِصْيونَ! رغم أنّ جبل تِصْيون هو الجبل الذي بُنيَت عليه مدينة القدس، فإنّ المصطلح يشير هنا إلى مدينة الله السماويّة ومن سيسكنها. وفيها تَتَلاقَى أَفواجٌ مِنَ المَلائكةِ لا تُحصَى في احتِفالٍ بَهيجٍ. 23 إنَّكُم قادِمونَ إلى جَماعةِ عِيالِ اللهِ الشُّرَفاءِ الّذينَ دُوِّنَتْ أَسماؤُهُم في السَّماءِ. أجل، إنّكُم قادِمونَ إلى اللهِ الحَكَمِ العَدلِ بَينَ كُلِّ البَشَرِ، وإلى الأمواتِ الّذينَ رَضيَ اللهُ عَنهُم ومَكَّنَهُم مِن بُلوغِ حَضرتِهِ، 24 كُلُّ ذلِكَ بِفَضلِ سَيِّدِنا عيسـى الَّذي أَبرَمَ مَعَنا ميثاقَ اللهِ الجَديدَ بِدَمِهِ المَسفوكِ الَّذي يَحمِلُ مَغفِرةَ الذُّنوبِ، وإنّ دَمَهُ لَأفضَلُ مِن دَمِ هابيلَ الَّذي طَلَبَ القِصاصَ.
25 فانتَبِهوا، ولا تَرفُضوا سَماعَ كَلامِ اللهِ. إنَّ الَّذينَ رَفَضوا أن يَستَمِعوا إلى إنذارِ النَّبيِّ موسى الَّذي يَنتَمي إلى الأَرضِ، أصابَهُمُ العِقابُ الشَّديدُ. وإذا ارتَدَدنا عَن سَيِّدِنا عيسى المُنَزَّلِ مِن السَّماءِ، فلَن نُفلِتَ أبَدًا مِن العِقابِ الشَّديدِ! 26 تَزَلزَلَتِ الأَرضُ بِصَوتِ اللهِ حينَما عَقَدَ مَعَهُ الميثاقَ القَديمَ، فَجاءَ كَلامُ اللهِ تَعالى على لِسانِ النَّبيِّ حَجَّي: “لأُزَلزِلَنَّ مَرّةً أُخرى، لا الأَرضَ وَحدَها بل أيضًا السَّماواتِ العُلى!” كتاب النبي حجّي 2: 6. 27 ومَعنى هذا أَنَّهُ سيُزَلزِلُ الدُّنيا، فيُزيلَ كُلَّ ما فيها، وإنّما الأَبَديُّ الثّابِتُ المَتينُ هو ما يَبقى. 28 فاحمَدوا اللهَ لأَنّهُ جَعَلَنا نَفوزُ بالمَملَكةِ الأبَديّةِ الرّاسِخةِ، واعبُدوهُ عِبادةَ خُشوعٍ ورَهبَةٍ يَرضى عنها. 29 إنَّ قوّةَ اللهِ كَالنّارِ المُلتَهِبةِ القاهِرةِ.

*الفصل الثّاني عشر:6 يقتبس الكاتب هنا من سفر الأمثال 3: 11‏-12.

الفصل الثّاني عشر:13 تتضمّن هذه الكلمات تلميحا إلى ما جاء على لسان النبي سليمان في سفر الأمثال 4: 26.

الفصل الثّاني عشر:15 التوراة، سفر التثنية 29: 18.

§الفصل الثّاني عشر:20 التوراة، سفر الخروج 19: 12‏-13.

*الفصل الثّاني عشر:21 لم ترد هذه التفاصيل في التوراة ويبدو أنّ ما جاء هنا هو إشارة إلى وحي جديد.

الفصل الثّاني عشر:22 رغم أنّ جبل تِصْيون هو الجبل الذي بُنيَت عليه مدينة القدس، فإنّ المصطلح يشير هنا إلى مدينة الله السماويّة ومن سيسكنها.

الفصل الثّاني عشر:26 كتاب النبي حجّي 2: 6.