الفصل الثّاني عشر
النّفاق
وبَينَما كانَت الحُشودُ تَزدادُ أعدادُها لرؤيتِهِ (سلامُهُ علينا) ازديادًا جَعَلَ النّاسَ يَدوسُ بَعضُهُم بَعضًا، وَقَفَ مُخاطِبًا أتباعَهُ أوّلاً: “اِحذَروا النِّفاقَ، خَميرَ المُتَشَدِّدينَ! لأنّهُ سيأتي يَومٌ لا بُدَّ لكُلِّ مَستورٍ فيهِ أن يَنكَشِفَ، ولا بُدَّ لكُلِّ ما كانَ خافيًا مِن الظُّهورِ فيَعلَمُهُ الجَميعُ جِهارًا. وما تَتَناقَلونَهُ في العَتَمات سيُصبِحُ مَسموعًا مُعلَنًا في وَضَح النّهارِ، وما تَتَهامَسونَ بِهِ في حُجُراتِكُم سيُعلَنُ مِن فَوقِ سُطوحِ المَنازِلِ.
اخشوا الله لا النّاس
أقولُ لكُم يا أعزّائي: لا تَخافوا مِمَّن يَقتُلُ الجَسَدَ، فلَيسَ لقاتِلِ الجَسَدِ ما يَستَطيعُ فِعلَهُ بَعدَ قَتلِهِ! ولكنْ أُخبِرُكُم بمَن عليكُم أن تَخافوا، إنّهُ اللهُ الّذي لهُ القُدرةُ على أن يُميتَ الإنسانَ ويُلقيَهُ بَعدَ ذلِكَ في الجَحيمِ!
نَعم، أقولُ لكُم: عليكُم أن تَخشَوهُ تَعالى! أَلاّ تُباعَ خَمسةُ عَصافيرَ بثَمَنٍ بَخسٍ، فِلسَينِ مَعدودَينِ؟ ولكنّ اللهَ لا يَبخَسُ قيمةَ عَصفورٍ واحدٍ مِنها، واعلَموا أنّكُم تَفوقونَ بقيمتِكُم عِندَ اللهِ قيمةَ هذِهِ العَصافيرِ. فلا تَخافوا إذن، إنّ اللهَ لَيَعلَمُ مِنكُم عَدَدَ شَعرِ رُؤوسِكُم فكَيفَ تَخشَونَ النّاسَ وأنتُم في حِماه.
إنّ كُلَّ مَن بايَعني أمامَ النّاسِ واتَّبَعَني فإنّني، أنا سَيّدَ البَشَرِ، أبايعُهُ أمامَ المَلائكةِ الأطهارِ. وأمّا مَن أدارَ ظَهرَهُ لي مُنكِرًا، فإنّني أُنكِرهُ في ذلِكَ المَقامِ أمامَ المَلائكةِ. 10 ومَن رَمى سَيّدَ البَشَرِ بسُوءٍ ثُمّ تابَ وأصلَحَ، فسيَغفِرُ اللهُ لهُ، وأمّا مَن لَجَّ في إنكارِهِ لشَهادَةِ رُوحِ اللهِ، ورَفَضَ الهِدايةَ والتَّوبةَ فهذا لن يُغفَرَ لهُ.
11 وإذا ساقَكُم النّاسُ في يَومٍ ما وأوقَفوكُم في المَحاكِمِ أو في بُيوتِ العِبادةِ، أو بَينَ يَدَيْ وُلاةِ الأمرِ ورِجالِ السُّلطةِ ليُدينُوكُم، فلا تَقلَقوا بشأنِ الدِّفاعِ عن أنفُسِكُم، 12 لأنّكُم ستَنعَمونَ في تِلكَ السّاعةِ بهِدايةِ رُوحِ اللهِ بما عليكُم قَولَهُ”.
مثل الغنيّ الغبيّ
13 ثُمّ وَقَفَ شَخصٌ مِن الحاضِرينَ وقالَ لسَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا): “يا مُعَلّمُ، أرجوكَ: قُل لأخي أن يُعطيَني نَصيبي مِن الميراثِ”. 14 فأجابَهُ (سلامُهُ علينا): “أيُّها الرَّجُلُ، مَن أقامَني بَينَكُما قاضيًا في تَقسيمِ الإرثِ والمُمتَلَكاتِ؟” 15 ثُمّ تابَعَ قائلاً: “يا أيُّها النّاسُ إيّاكُم والطَّمعَ! لأَنَّ قيمةَ حَياةِ الإنسانِ لا تُقاسُ بما يَملِكُ”.
16 ثُمّ ضَرَبَ لهُم مَثَلاً على ذلِكَ بقَولِهِ: “كانَ في ما مَضى رَجُلٌ ثَريٌّ عادَت عليهِ أرضُهُ بحَصادٍ وافِرٍ ونِتاجٍ غَزيرٍ. 17 فحَدَّثَ نَفسَهُ قائلاً: “ضاقَت مَخازني بِغِلالِ أرضي، فماذا أعمَلُ؟ 18 ثُمّ قالَ: لأهدِمَنّها ولَأُشَيِّدَنَّ أضخَمَ مِنها لِتَسعَ حِنطتي وكُلَّ مُمتَلَكاتي، 19 وأفرَحَ وأتَنَعِّمَ وأشبَعَ طَعامًا وشَرابًا، فإنّ ما في مَخازني مِن مُؤَنٍ يَكفيني سِنينَ عَديدةً!” 20 فخاطَبَهُ اللهُ تَعالى: “يا أيُّها الإنسانُ إنّكَ لَغَبيٌّ! فإنّي في هذِهِ اللَّيلةِ مُتَوَفّيكَ، فلِمَن سيَؤولُ كُلُّ ما جَمَعتَ لنَفسِكَ؟!” 21 لذلِكَ اعلَموا أيُّها النّاسُ أنّ كُلَّ مَن يَكنِزُ المالَ لنَفسِهِ فإنّما مَصيرُهُ إلى زَوالِ، ولن يَكونَ، عِندَ اللهِ، غَنيًّا”.
الاتّكال على الله
22 ثُمّ خاطَبَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) أتباعَهُ قائلاً: “لِهذا أقولُ لكُم: لا تَهتَمّوا في حَياتِكُم بطَعامِكُم وكِسوَتِكُم، 23 فالحَياةُ أغنَى مِن مُجَرَّدِ طَعامٍ تأكلونَهُ، والجَسَدُ أهمُّ مِن مُجَرَّدِ كِساءٍ تَلبِسونَهُ! 24 ألا تَرونَ الغِربانَ؟ إنّها لا تَحتاجُ إلى أن تَزرَعَ أو تَحصُدَ وهي لا تُخَزِّنُ مَؤونَتَها، لأنّ اللهَ يَرزُقُها طَعامًا يَكفيها. وأنتُم بلا شَكٍّ عِندَ اللهِ أرفَعُ ومِن هذِهِ الطُّيورِ أولى! 25 وإنّي لَسائلُكُم: أيَستَطيعُ أحَدٌ، مَهما حاوَلَ، أن يُطيلَ عُمرَهُ ولو ساعةً؟! 26 إنّكُم ولا شَكَّ عن ذلِكَ عاجِزونَ وهو عِندَ اللهِ يَسيرٌ، فأَعرِضوا عَمّا شَغَلَكُم عن رَبِّكُم! 27 وتأمّلوا الزَّنابِقَ كَيفَ تَنمو -هي الّتي لا تَحمِلُ هَمَّ صِناعةِ كِسائِها- فإنّ النَّبيَّ سُليمانَ وهو في قِمّةِ مَجدِهِ وسُلطانِهِ، لم يَرتَدِ مِثلَ كِسائِها بَهاءً! 28 فإن كانَ اللهُ يَكسُو العُشبَ هذا الكِساءَ، العُشبُ الّذي يَنمو في الحَقلِ اليَومَ ثُمّ يَكونُ غَدًا وَقودًا، فكَيفَ بِكُم؟ ألَيسَ اللهُ بقادرٍ على أن يَكسُوَكم يا قَليلي الإيمانِ؟! 29 فَلا تَهتَمّوا بِما ستأكُلونَ وَتَشرَبونَ، وإيّاكُم والتَّفكيرَ في الرِّزقِ، 30 لأنّ أهلَ الدُّنيا هم الّذينَ يَسعَونَ وَراءَ ذلِكَ، أمّا أنتُم فإنّ اللهَ أباكُم الرَّحمَن يَرعاكُم كالأبِ الحَنونِ، وهو أدرَى بحاجاتِكُم، 31 وليَكُنْ سَعيُكُم في سَبيلِ المَملَكةِ الإلهيّة، فيَرزُقُكم اللهُ، إضافةً إليها، كُلَّ ما تَحتاجونَ إليهِ. 32 فلا تَجزَعَنَّ يا رَعيّتي الصَّغيرةُ، فلقد رَضِيَ اللهُ الأبُ الصَّمَدُ أن يَضُمَّكُم إلى المَملَكةِ الرَّبّانيّة!
33 لذلِكَ بِيعوا مُمتَلَكاتِكُم، وتَصَدَّقوا بأثمانِها على الفُقَراءِ، واتّخَذوا لأنفُسِكم أكياسًا لا تَبلَى، وادَّخّروا عِندَ رَبِّكُم كَنزًا لا يَفنَى، فلا تَنالُهُ يَدُ سارِقٍ، ولا يَعرِفَنّ السّوسُ طَريقَهُ إليهِ. 34 واعلَموا بأنّ رَغبةَ قُلوبِكُم مُوَجَّهةٌ حَيثُما تَدَخِّرونَ كُنوزَكُم”.
استعدّوا للقاء سيّدكم
35 “استَعِدّوا وتَهَيّؤوا يا أحبابي في كُلِّ وَقتٍ وحينٍ، ولتَكُنْ مَصابيحُكُم مُضاءَةً وقد ارتَدَيتُم ثيابَ الخَدَمِ، 36 فتَكونوا بذلِكَ عَبيدًا واقِفينَ بانتِظارِ عَودةِ مَولاهُم مِن العُرسِ، حتّى إذا جاءَ وطَرَقَ عليهِم البابَ، فَتَحوا لهُ دونَ إبطاءٍ. 37 وقد أفلَحَ أولئكَ العَبيدُ الّذينَ إذا جاءَ سَيِّدُهُم وَجَدَهُم أيقاظًا. وأقولُ لكُم يَقينًا إنّ هؤلاءِ سيَجزيهُم سَيِّدُهُم خَيرَ جَزاء، فيُشَمِّرُ عن ساعدَيهِ ليُجلِسَهُم إلى المائدةِ ويَقومَ على خِدمتِهِم! 38 وإذا جاءَهُم عِندَ مُنتَصَفِ اللّيلِ، أو عِندَ الفَجرِ أيضًا، فوَجَدَهُم أيقاظًا فهَنيئًا لهُم! 39 واعلَموا أن لو عَرَفَ صاحِبُ البَيتِ ساعةَ قُدومِ السّارِقِ، لَمَا تَرَكَ لهُ البَيتَ فيَسرِقَهُ! 40 فاستَعِدّوا لِلِقاءِ سَيّدِ البَشَرِ، فإنّهُ سيُفاجئُكُم في ساعةٍ لا تَتَوَقَّعونَهُ فيها!”
41 والتَفَتَ إليهِ بُطرُسُ الصَّخرُ قائلاً: “يا سَيِّدَنا أتَسوقُ هذا المَثَلَ لنا خاصّةً، أم للنّاسِ عامّة؟!” 42 فأجابَهُ السَّيِّدُ المَسيحُ (سلامُهُ علينا): “إنّما أضرِبُ ذلِكَ المَثَلَ لكُلِّ عَبدٍ أمينٍ حَكيمٍ وَثِقَ بِهِ سَيِّدُهُ فكَلَّفَهُ أُمورَهُ، وقَبلَ سَفَرِهِ أمَرَهُ بإطعامِ كُلِّ عَبيدِهِ في حينِهِ. 43 قد أفلَحَ ذلِكَ العَبدُ الّذي وَجَدَهُ سَيِّدُهُ، عِندَ رُجوعِهِ إليهِ، قائمًا بعَمَلِهِ. 44 والحَقَّ أقولُ لكُم، إنّ سَيِّدَهُ سيُوكِلُ إليهِ أمرَ جَميعِ مُمتَلَكاتِهِ! 45 أمّا إذا حَدَّثَ العَبدُ نَفسَهُ قائلاً: “سيَتأخَّرُ مَولايَ في الرُّجوعِ”. فأخَذَ يَتَسَلَّطُ على العَبيدِ والجَواري، ويَتَمادَى في أكلِهِ وشُربِهِ للخَمَرِ فيَسكَرَ، 46 ثُمّ يَعودُ سَيِّدُهُ فيأخُذُهُ على حينِ غِرّةٍ، فسيَغضَبُ السَّيِّدُ غَضَبًا حتّى ليَكادُ يُمَزِّقُهُ إرَبًا إرَبًا مُعتَبِرًا إيّاهُ كافرًا مِن الكُفّار! ويَكونُ عِقابُهُ شَديدًا، 47 لأنّهُ كانَ يَعرِفُ ما يُريدُ سَيِّدُهُ مِنهُ، ولكنّهُ رَفَضَ القيامَ بما أُوكِلَ إليهِ. 48 . أمّا ذاكَ الّذي لا يَدري ما الّذي يُرضي مَولاهُ، ويَعمَلُ ما يَستَحِقُّ العِقابَ، فسيَكونُ عِقابُهُ أهوَنَ. إنّ اللهَ يُطالِبُكُم بقَدرِ ما يَمنَحُكُم مِن نِعَمِ، فمَن أوكَلَ اللهُ إليهِ كَثيرًا فسيُطالِبُهُ بقَدرِ ما أوكَلَهُ”.
لا سلام بل خلاف
49 وتابَعَ (سلامُهُ علينا) قائلاً: “لقد جِئتُ إلى الأرضِ برِسالتي لأنشُرَها فتَسري كالنّارِ، وكَم أرجو لو أنّها بَدأتْ بالسَّرَيانِ! 50 ولكن عليَّ قَبلَ ذلِكَ أن أنغَمِسَ في الآلامِ، وما أشَدَّ ضِيقي وكَربي إلى أن يَتِمَّ ذلِكَ! 51 ولا تَظُنّوا أنّي جِئتُ لأُقيمَ السّلامَ بَينَ المؤمنينَ وغَيرِ المؤمنينَ في الأرضِ. لا، بل سَتَرَونَ عليها خِصامًا! 52 ولَيَقعَنَّ مُنذُ الآن في البُيوتِ الشِّقاقُ، فإن كانَ في أحَدِها خَمسةُ أفرادٍ فسيَقَعُ الشِّقاقُ بَينَهُم ويَختَصِمونَ ويُصبِحونَ فَريقَينِ: ثَلاثةٌ ضِدَّ اثنَينِ أو اثنانِ ضِدَّ ثَلاثةٍ، 53 ويَقَعُ العِداءُ بَينَ الأبِ وابنِهِ وبَينَ الأُمِّ وابنَتِها، وبَينَ زَوجةِ الابنِ وحَماتِها”.
علامات الله في هذا الزّمن
54 والتَفَتَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) إلى النّاسِ قائلاً: “إنّكُم حينَ تَرونَ السَّحابةَ آتيةً مِن الغَربِ، تَقولونَ سَحابٌ مُمطِرٌ، ويَهطِلُ المَطرُ. 55 وإذا هَبَّت رِيحٌ جَنوبيّةٌ مِن جِهةِ الصَّحراءِ تَنَبَّأتُم بِحَرٍّ، ويَسودُ بَعدَ ذلِكَ حَرٌّ شَديدٌ. 56 فيا أيُّها المُنافِقونَ، كَيفَ تَعلَمونَ مِن الطَّبيعةِ ما تَعلَمونَ، ولا تُدرِكونَ عَلاماتِ اللهِ في زَمانِكُم هذا؟ 57 ولِماذا تَجهَلونَ ما عليكُم القيامُ بِهِ مِن تِلقاءِ أنفُسِكُم قَبلَ فَواتِ الأوانِ؟! 58 دَعوني أضرِبُ لكُم مَثَلاً: إن تَوَجَّهتَ وخَصمَكَ إلى المَحكمةِ، فاجتَهِدْ أن تَتَصالَحَ مَعَهُ أثناءَ الطَّريقِ حتّى لا يُدينَكَ القاضي ويَقضيَ عليكَ بالسَّجنِ، فيُسَلِّمَكَ إلى الحارِسِ الّذي يُلقيكَ فيهِ، 59 إنّكَ أيُّها المَسكينُ لن تَخرُجَ مِن السِّجنِ حتّى تؤدّيَ حقَّ خَصمِكَ عليكَ إلى آخِرِ فِلسٍ!”