مدخل إلى الرّسالة إلى أتباع المسيح العبرانيين
إنّ كاتب الرسالة إلى أتباع المسيح العبرانيين مجهولُ الهويّة، وقد رَجّحَ العلماءُ أسماءً لبعض الأشخاص الذين ربّما يكون أحدهم قد كتب هذه الرسالة مثل بولس، ولوقا، وشمسي وغيرهم. ولكن لم يتوصّل أحدهم إلى تحديد هويّة الكاتب الحقيقي. ويبدو جَليّا أنّ كاتب هذه الرسالة له اطلاع واسع على التوراة وكتب الأنبياء الأخرى، وله معرفة وطيدة بالناس الذين يتوجّه إليهم بالخطاب في الرسالة، وهو متمرّس على الكتابة باللغة اليونانية، وصديق لتيموتاوي (13: 23).
واستخدم الكاتب في كتابة هذه الرسالة أسلوبا يونانيا راقيا، كما وظّف الأدوات البلاغية المألوفة في الثقافتين الإغريقية والرومانية. ورغم أنّ هذه الرسالةَ قد صُنّفت من جنس الرسائل، إلاّ أنّها تَفتقِد المقدّمة المألوفة في الرسائل، ولا تتضمّنُ اسم كاتبها. وربّما كانت هذه الرسالةُ أقربَ إلى الخطاب المحبوك بعناية، أو موعظة وضعت لجماعة معيّنة من المؤمنين، كاتبها متعمّق في كتابات الأنبياء القديمة المترجمة إلى اللغة اليونانية، وتَعلّمَ في المؤسسات اليونانية والرومانية آنذاك. لكن أسلوبه اليوناني يختلف تماما عن أسلوب الحواري بولس. إذن، فمن المستبعد أن يكون بولس هو كاتب هذه الرسالة.
وفي هذه الرسالة لا نعرف تحديدا الجمهور الذي يتوجّه إليه الكاتبُ بالخطاب كما أنّ عنوانها “إلى العبرانيين” ليس من وضع الكاتب، بل ربّما يكون ناسخٌ قد وضعه في القرن الثاني للميلاد لِما تحتويه هذه الرسالة من حُجَج تفسيريّة معقّدة مستمدّة من التوراة وكتاب الزبور ومن تقاليدَ يهوديةٍ أخرى تتعلّق بالعبادة. ويبدو من خلال مضمون الرسالة أنّ بعض قرّائها كانوا من اليهود الذين يتكلّمون اليونانية وقد رغبوا في التخلّي عن إيمانهم بالسيد المسيح والعودة إلى شعائرهم اليهودية.
وتشير المعلومات إلى أنّ هذه الرسالة قد كُتبت في الفترة الممتدّة بين سنتي 60 و90 للميلاد، إذ تناول الكاتب قضايا تَهمُّ جيلا ثانيا من المؤمنين عاش ما بين ثلاثين أو أربعين سنة بعد صعود السيد المسيح إلى السماء. ورأى بعض الدارسين أنّ الرسالة كُتبت في الفترة التي تسبق سنة 70 للميلاد، لأنّ الكاتب أثبت فيها تفوّق السيد المسيح (سلامه علينا) على نظام الأحبار الكهنوتي بما فيه تقديمُ الأضاحي، واستند هؤلاء في قولهم إلى أنّ الرسالة لو كتبت بعد سنة 70 للميلاد لأشارت إلى حادثة تدمير بيت الله وحرمه المقدّس كدليل على أنّ الله تعالى قد نبذ نظام الأحبار. ولكنّ الكاتب لم يُبدِ أيَّ اهتمام ببيت الله في القدس أو بشعائر العبادة اليهودية في حرم البيت في عصره. وبدلا من ذلك ركّز على خيمة العبادة التي أمر الله النبي موسى ببنائها عندما كان فوق جبل سيناء، كما ركّز على شعائر العبادة التي وردت في التوراة في عهد موسى وهارون (عليهما السلام) ويشوع بن نون. كما حاول في هذه الرسالة أن يقارن بين جمهور مخاطبيه الذين قبلوا الميثاق الجديد، وبين اليهود الذين قبلوا الميثاق على جبل سيناء.
وكما هو معلوم، فقد كُتبت هذه الرسالة في زمن كان المؤمنون فيه يتعرّضون لاضطهاد شديد (13: 3) مثلما تعرّضوا للاضطهاد في الماضي (10: 32‏-34). ورغم أنّهم ظَلّوا لفترة من أتباع السيد المسيح (سلامه علينا) وتلّقَوْا تعاليمه الأساسية (6: 1‏-2) إلاّ أنّهم لم يأخذوا على عاتقهم القيادة كما يجب (5: 12). إذن، تهدف هذه الرسالة إلى حثّ المؤمنين على الإخلاص بما أنّهم يقاومون الاضطهاد وفتورَ الإيمان في الوقت نفسه.
بسم الله تبارك وتعالى
الرسالة إلى أتباع المسيح العِبرانيّين
الفصل الأوّل
المسيح حبيب الله
لقد أَوحَى اللهُ فيما مَضَى على ألسِنَةِ أَنبيائِهِ إلى آبائِنا الأَوَّلينَ بِشَتَّى الطُّرُقِ وفي مُختَلِفِ الأزمانِ. أمّا الآنَ، وفي أواخِرِ أيّامِ هذِهِ الدُّنيا، فَقَد أَوحَى إلينا بسَيِّدِنا عيسَى، الابنِ الرُّوحيِّ لهُ تَعالى،* إنّ تعبير “الابن الروحي” هنا تعريب للمصطلح الذي يُترجم عادة بكلمة “ابن”. ولا علاقة لمعناه مطلقا بعملية الإنجاب المألوفة في لغة الوحي اليونانية، معاذ الله! بل هو لقب مجازيٌّ للملك المختار الذي يجب أن يكون من سلالة النبي داود. إنّ هذا اللّقب يشير إلى نوعيّة العلاقة التي تربط بين الله والسيد المسيح. وعلى هذا الأساس يَمنح المسيحُ أتباعه الحقّ ليكونوا أهل بيت الله. ويعني هذا اللقب أيضا أنّه المسيح المنتظر الذي يحكم المملكة الأبديّة التي وعد الله بها عبادَه الصالحين. وأنّه كلمة الله التي ألقاها إلى مريم العذراء فأصبحت إنسانًا بقوّة روح الله. وحسب الإنجيل، فإنّ كلمة الله هي صفة قائمة في ذاته تعالى. ومن هذا المنطلق يُمكن أن نفهم السلطة التي يتمتّع السيّد المسيح (سلامه علينا) بها على بيت الله وهي كسلطة الابن البكر في العائلة. الّذي خَلَقَ بِهِ كُلَّ شَيءٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ مَن يَرِثُ الكَونَ وما فيهِ. والابنُ الرُّوحيُّ هو نورُ جَلالِهِ تَعالى، والتَّعبيرُ الصَّدوقُ اعتمدنا مصطلح “التعبير الصّدوق” وهو يقابل مصطلحا في اللغة اليونانية يشير إلى علامة الختم. واعتبر مفكّرون يهود، من باب المجاز، أنّ الله وسَمَ خَلقَه بختمه مثلما تضع الحكومة ختمها على العُمْلة، ولله المثل الأعلى. ويسمِّي هؤلاء الكتّاب غالبا هذا الختم “الحكمة الإلهية”. عن ذاتِهِ، وهو الّذي يَحفَظُ كُلَّ ما في الكَونِ بِقوّةِ كَلِمتِهِ. صَعِدَ إلى اللهِ، بَعدَ أن طَهَّرَ الإنسانَ مِن خَطيئتِهِ، وجَلَسَ على يَمينِهِ جَلَّ جَلالُهُ في السَّماواتِ العُلى.
شأن حبيب الله أعلى من شأن الملائكة
وهكذا احتَلَّ سَيِّدُنا عيسى مَحَلاّ أَعظَمَ مِن مَقامِ المَلائكةِ وأَبهى، كَما أَنّ لَقَبَهُ أَعظَمُ مِن ألقابِهِم وأَرقَى. لأَنّنا نَقرأُ في كِتابِ الزَّبور عَن سَيِّدِنا عيسى: “أنتَ أقرَبُ إليّ مِن الابنِ لأبيهِ، واليَومَ على العَرشِ أجلَسناكَ”. ولم يُخاطِب اللهُ أَحَدًا مِن المَلائكةِ بهذِهِ الطَّريقَةِ مُطلَقًا. وفي كِتابِ النَّبيِّ صَموئيلَ نَقرأُ قَولَ اللهِ عن سَيِّدِنا عيسى دونَ غَيرِهِ: “أنا أكونُ لهُ في مَقامِ الأبِ وهو يَكونُ في مَقامِ ابني الرُّوحيّ”. أُخِذت هذه الاقتباسات من المزمور 2: 7 وكتاب النبي صموئيل الثاني 7: 14. ويحتوي كلا النّصين على كلمة “ابن”، وشاع لدى مفسّرين يهود أن يجمعوا بين نصّين يحملان مصطلحا أساسيّا مشتركا، ويشير كلا النّصين إلى أنّ وَعْد الله يتحقّق من خلال رجل من سلالة النبي داود ويكون الملك الأبدي. وقد جاء ذِكرُ هذين النصين معا في مخطوطات البحر الميت كإشارة للمسيح المنتظر. وتُرجم الاقتباس من المزمور الثاني غالبا بـ “اليوم ولدتُك”، وتشير كلمة “ولدتُك” إلى تتويج الملك، وعندما ينطبق هذا المصطلح على المسيح المنتظَر، وهو سيدنا عيسى (سلامه علينا)، فإن ذلك يشير إلى تعظيمه (سلامه علينا) عن طريق انبعاثه من الموت. ولقد جاءَ في التَّوراةِ أَنَّ اللهَ رَفَعَ أَشرَفَ أَحبابِهِ§ يشير مصطلح “أشرف أحبابه” إلى الابن البكر في العائلة ويكون نصيبه من الميراث ضعف ما يناله بقيّةُ أبناء العائلة (انظر التوراة، سفر التثنية 21: 17)، واستعمل اليهود مصطلح “البكر” كناية عن الملك المختار من سلالة النبي داود (عليه السّلام) ليؤكّد أنّه يُكرّم أكثر من غيره، وكان من البديهي أن يعرف القرّاء اليهود أنّ هذا الاقتباس من كتاب الزبور، مزمور 97: 7، وقد يحيل هذا النّص لدى البعض على التقليد اليهودي وفيه يأمر الله ملائكته بتكريم آدم عندما خلَقَه. فَوقَ العالَمينَ: “على المَلائِكةِ أن يَنحَنُوا أَمامَهُ ساجِدينَ”. ولقد وُصِفَ المَلائكةُ في كِتابِ الزَّبورِ بقَولِهِ تَعالى: “هُم رُسُلٌ كَالرِّياحِ، وخُدّامٌ مِثلُ لَهيبِ النّارِ”.* كتاب الزبور، مزمور 104: 4. في حينَ جاءَ عن الابنِ الرُّوحيِّ للهِ: “اللّهُمَّ، قائمٌ هو عَرشُكَ إلى أَبَدِ الآبِدين! أيُّها المُختارُ، أنتَ حاكِمٌ في مَملَكتِكَ المَوعودةِ بصَولَجانِ العَدلِ. عاشِقٌ أنتَ أَيُّها المَليكُ للحَقِّ ومُبغِضٌ لِلظُلمِ، فيا لَلفَرَحِ إذ جَعَلَكَ اللهُ رَبُّكَ مَلِكًا فَوقَ كُلِّ المُلوكِ!” كتاب الزبور، مزمور 45: 6‏-7. 10 ونَجِدُ عَنهُ في كِتابِ الزَّبورِ أيضًا: “يا مَولانا، لقد أسَّستَ في البَدءِ الأَرضَ، والسَّماواتُ مِن عَمَلِ يَدَيكَ، 11 هي تَفنى بَينَما أنتَ سَرمَديّ، كُلُّها تَبلى كَما يَبلى الثَّوبُ. 12 تَطويها كُلَّها كَرِداءٍ، وتُغَيِّرُها كالثَّوبِ الّذي أصابَهُ البِلى، أَمّا أَنتَ فتَدومُ ولا تَتَغَيَّرُ أبَدًا،‏ وسِنوكَ لَيسَ لها انتِهاءٌ”. كتاب الزبور، مزمور 102: 25‏-27.
13 ما خاطَبَ اللهُ في كِتابِ الزَّبور أحَدًا مِنَ المَلائكةِ كَما خاطَبَ سَيِّدَنا عيسى حينَ أَوحى إليهِ: “اِجلِس على يَميني، حَتّى أقهَرَ أَعداءَكَ وأجعَلَهُم تَحتَ قَدَمَيكَ صاغِرينَ”.§ كتاب الزبور، مزمور 110: 1. 14 فالمَلائكةُ إذن لَيسوا سِوى خَدَمٍ مُطيعينَ وكائِناتٍ غَيبيَّةٍ يُرسِلُها اللهُ لِتَخدِمَ الفائِزينَ بِالنَّجاةِ.

*الفصل الأوّل:2 إنّ تعبير “الابن الروحي” هنا تعريب للمصطلح الذي يُترجم عادة بكلمة “ابن”. ولا علاقة لمعناه مطلقا بعملية الإنجاب المألوفة في لغة الوحي اليونانية، معاذ الله! بل هو لقب مجازيٌّ للملك المختار الذي يجب أن يكون من سلالة النبي داود. إنّ هذا اللّقب يشير إلى نوعيّة العلاقة التي تربط بين الله والسيد المسيح. وعلى هذا الأساس يَمنح المسيحُ أتباعه الحقّ ليكونوا أهل بيت الله. ويعني هذا اللقب أيضا أنّه المسيح المنتظر الذي يحكم المملكة الأبديّة التي وعد الله بها عبادَه الصالحين. وأنّه كلمة الله التي ألقاها إلى مريم العذراء فأصبحت إنسانًا بقوّة روح الله. وحسب الإنجيل، فإنّ كلمة الله هي صفة قائمة في ذاته تعالى. ومن هذا المنطلق يُمكن أن نفهم السلطة التي يتمتّع السيّد المسيح (سلامه علينا) بها على بيت الله وهي كسلطة الابن البكر في العائلة.

الفصل الأوّل:3 اعتمدنا مصطلح “التعبير الصّدوق” وهو يقابل مصطلحا في اللغة اليونانية يشير إلى علامة الختم. واعتبر مفكّرون يهود، من باب المجاز، أنّ الله وسَمَ خَلقَه بختمه مثلما تضع الحكومة ختمها على العُمْلة، ولله المثل الأعلى. ويسمِّي هؤلاء الكتّاب غالبا هذا الختم “الحكمة الإلهية”.

الفصل الأوّل:5 أُخِذت هذه الاقتباسات من المزمور 2: 7 وكتاب النبي صموئيل الثاني 7: 14. ويحتوي كلا النّصين على كلمة “ابن”، وشاع لدى مفسّرين يهود أن يجمعوا بين نصّين يحملان مصطلحا أساسيّا مشتركا، ويشير كلا النّصين إلى أنّ وَعْد الله يتحقّق من خلال رجل من سلالة النبي داود ويكون الملك الأبدي. وقد جاء ذِكرُ هذين النصين معا في مخطوطات البحر الميت كإشارة للمسيح المنتظر. وتُرجم الاقتباس من المزمور الثاني غالبا بـ “اليوم ولدتُك”، وتشير كلمة “ولدتُك” إلى تتويج الملك، وعندما ينطبق هذا المصطلح على المسيح المنتظَر، وهو سيدنا عيسى (سلامه علينا)، فإن ذلك يشير إلى تعظيمه (سلامه علينا) عن طريق انبعاثه من الموت.

§الفصل الأوّل:6 يشير مصطلح “أشرف أحبابه” إلى الابن البكر في العائلة ويكون نصيبه من الميراث ضعف ما يناله بقيّةُ أبناء العائلة (انظر التوراة، سفر التثنية 21: 17)، واستعمل اليهود مصطلح “البكر” كناية عن الملك المختار من سلالة النبي داود (عليه السّلام) ليؤكّد أنّه يُكرّم أكثر من غيره، وكان من البديهي أن يعرف القرّاء اليهود أنّ هذا الاقتباس من كتاب الزبور، مزمور 97: 7، وقد يحيل هذا النّص لدى البعض على التقليد اليهودي وفيه يأمر الله ملائكته بتكريم آدم عندما خلَقَه.

*الفصل الأوّل:7 كتاب الزبور، مزمور 104: 4.

الفصل الأوّل:9 كتاب الزبور، مزمور 45: 6‏-7.

الفصل الأوّل:12 كتاب الزبور، مزمور 102: 25‏-27.

§الفصل الأوّل:13 كتاب الزبور، مزمور 110: 1.